يؤسفني القول إن التوجه نحو إفريقيا تحول إلي مظاهرة لا يتوقع لها أن تحقق الأهداف الكاملة, لأننا تعودنا أن نهتم فجأة بقضية ما ثم نهملها إهمالا كاملا دون مقدمات.. نعيش هذه الأيام ما يمكن أن أسميه الحمي الإفريقية.. وهي حمي حميدة بعد ثورة25 يناير, وانتهاء النظام السابق الذي أهمل وتعالي علي القضايا الإفريقية.. غير أنه يؤسفني القول إن التوجه نحو إفريقيا تحول إلي مظاهرة لا يتوقع لها أن تحقق الأهداف الكاملة, لأننا تعودنا أن نهتم فجأة بقضية ما ثم نهملها إهمالا كاملا دون مقدمات.. لا بد لأي محاولة للاقتراب من إفريقيا أن تكون لدينا معرفة علمية بها.. وإذا كنا نعاني من ضعف واضح في الثقافة السياسية وفي الإلمام بشئون العالم من حولنا رغم الكم المهول من الثرثرة في الفضائيات والمطبوعات.. فإن ثقافتنا السياسية ومعرفتنا العلمية عن إفريقيا تعاني من فقر مخجل.. ولا شك أن كل نهضة وطنية تسبقها وتصاحبها بالضرورة نهضة في حركة الترجمة.. هكذا كان دور رفاعة رافع الطهطاوي, وكذلك كان دور سلسلة الألف كتاب وجهود ثورة يوليو في هذا المجال.. فماذا عن واقع الترجمة عن الأدبيات الإفريقية في مصر اليوم.. يؤسفني القول أولا أن حجمها ضعيف جدا.. ولا يقبل عليها المترجمون الكبار.. كما لا يوجد لدينا مترجمون متخصصون في المعارف الإفريقية.. وأهمية هذا تكمن في أن دور المترجم لا يتوقف عند تحويل الكتابات بالإنجليزية أو الفرنسية إلي العربية, إنما نحن بحاجة إلي المترجم الشارح والباحث والمقارن, حتي يكتمل دوره في الترجمة.. وإذا نظرنا إلي أهم ما نترجمه عن إفريقيا اليوم سنجد أن معظمه منتج في الغرب, أولكتاب أفارقة ولكن بانتقاءات غربية طبعا.. ثم سنلاحظ الاهتمام الزائد بالفلكلور والغرائبيات والفن والنقد الأدبي, وربما الجغرافيا والأنهار في أحسن الأحوال.. ويكاد يكون دارسو الشئون الإفريقية هم المهتمين الوحيدين بقراءة مثل هذه المواد المترجمة.. وأزعم أن المتخصصين في الشئون الإفريقية في وزارة الخارجية مثلا بعيدون عن الاهتمام بدراسة المجتمعات والدول الإفريقية.. حتي إن بعضهم يكاد يعتبر وجوده في هذا الفرع مجرد خدمة إجبارية إلي أن يفتح الله عليه بالخدمة في بلد أوربي أو نفطي.. والدليل علي ما أقول أن معهد الدراسات الإفريقية بجامعة القاهرة قد أنتج المئات من رسائل الماجستير والدكتوراة التي ركنت علي الأرفف, ولم يهتم أحد من صناع السياسة بالاستفادة من آلاف طلاب الدراسات العليا الذين مروا علي المعهد, وكأن الهدف من الدراسة كان الحصول علي الشهادة والدرجة وكفي.. جملة القول إنه لا توجد لدينا سياسة عامة محددة للترجمة عن إفريقيا.. لأننا بالطبع لا نملك أصلا سياسة للترجمة بشكل عام.. أي لماذا وماذا وكيف نترجم.. إن الاهتمام بالترجمة عن إفريقيا يجب أن يقوم علي الاقتناع بالمبادئ التالية: (1) الترجمة مطلوبة للمعرفة في حد ذاتها. (2) الترجمة مطلوبة لخدمة السياسة الخارجية( بمعرفة تاريخ وأدوار القوي الفاعلة في البلدان الإفريقية). (3) الترجمة مطلوبة لخدمة الاقتصاد( كفتح الأسواق ودخول التكتلات الاقتصادية الإقليمية). (4) الترجمة مطلوبة للقيام بالتحليلات السياسية المقارنة( من المهم مثلا معرفة التجربة الفيدرالية في إثيوبيا ونيجيريا, وتجربة لجان الحقيقة والمصالحة في جنوب إفريقيا, وتجارب المؤتمرات الدستورية, وتجرب تطبيق الروشتة الفاشلة لصندوق النقد الدولي). أما عن ماذا نترجم؟.. فإنني أدعو لإعطاء الأولوية للكتابات الأكاديمية والفكرية.. مع اهتمام خاص بالأعمال التي تتناول التاريخ السياسي والاقتصادي والاجتماعي للبلدان الإفريقية.. ثم الاهتمام أكثر بمسائل التنمية والديمقراطية والسياسة الخارجية في عصر العولمة.. بالنسبة لأزمة التنمية في إفريقيا, وهي جوهر أزماتها كلها تقريبا.. أدعو إلي ترجمة الأعمال التي تتناول نظريات ومفاهيم التنمية التي طبقت في القارة, ومدي الاهتمام بالبعد الاجتماعي والفوارق العرقية والطبقية والجهوية, ودور الدولة في الحياة الاقتصادية, والتكتلات الاقتصادية الإقليمية, وكذلك الموقف من سيطرة الدول العظمي والشركات عابرة القارات علي الفائض الاقتصادي والموارد الطبيعية في القارة.. أما عمليات الانتقال الديمقراطي في القارة فتحتاج إلي اهتمام خاص لاستخلاص الدروس المفيدة لتجربتنا الديمقراطية, وأيضا للمعرفة الضافية بالحياة السياسية الداخلية في تلك البلدان, حيث من المهم دائما معرفة مع من تتعامل.. وهناك حاجة أيضا لمعرفة المزيد عن تطورات الحركات الدينية الأصولية والسلفية التي لعبت في الماضي وتلعب الآن دورا متزايدا في الحياة السياسية في القارة.. من المهم أيضا ترجمة المزيد من المواد عن العلاقات والصور المتبادلة بين الأفارقة والعرب, بما في ذلك أكثر المشاكل حساسية كمشكلة الرق في التاريخ الإفريقي, ودور الجاليات العربية في غرب ووسط إفريقيا بشكل خاص في الحياة الاقتصادية والسياسية بتلك البلدان.. تتبقي أيضا قضايا السياسة الخارجية, وخاصة الصراع الصيني الأمريكي علي الموارد والأسواق الإفريقية, وكذلك المحاولات الأمريكية للتدخل العسكري المباشر وغير المباشر تحت القيادة العسكرية الأمريكية المسماة أفريكوم. وحتي ينجح ذلك العمل المعرفي المهم ينبغي أن تهتم الدولة بالمترجمين اهتماما خاصا برفع المقابل الذي يحصلون عليه, مع اشتراط أن يرفقوا ترجماتهم بالشروح والتعليقات المفيدة للقارئ.... أخيرا إذا كانت إفريقيا تهمنا فعلينا أولا أن نعرفها.. والترجمة هي أولي خطوات المعرفة, شرط ألا تكون ترجمة سد الخانة التي يسجلها الموظفون البيروقراطيون في تقاريرهم, وأن تتم عملية الترجمة وفق خطط متناغمة وهادفة..