كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته.. جملة اعتدنا سماعها منذ أن كنا أطفالا, لكن أحدا منا لم يسأل نفسه عن معني هذه المسئولية وحدودها, فهناك من الآباء من يعتقد أن مسئوليته عن أولاده تعني أن يكون وصيا علي أفعالهم وأفكارهم واختياراتهم بما في ذلك مجال دراستهم وعملهم وربما أيضا اختياراتهم في الزواج, وبما أنه يدرك أفضل من أولاده فعليه أيضا أن يؤدبهم بل ويقمعهم من أجل مصلحتهم, وهذه الوصاية وهذا القمع يمتد بشكل طبيعي إلي المدرسة فيصبح المدرس مسئولا عن الرعية الذين هم الطلاب ويتقمص دور الأب الوصي ويستخدم القمع الجسدي والنفسي لإصلاح الرعية, والأمر نفسه يمتد إلي النادي وإلي كل المؤسسات ومنها إلي الشارع, فتنشأ متوالية القمع التي تنتج لنا جيلا من الأبناء الساخطين الناقمين المتمردين, غير المنتجين في انتظار تحقيق حلم الفرار عبر البحار إلي بلاد الفرنجة. وعلي الجانب الآخر نجد من الآباء من يتخلي تماما عن مسئوليته لأنه ببساطة غارق في البحث عن لقمة العيش فلا هو مارس الوصاية والقمع ولا هو شرح ولا ناقش ولا تابع حتي أنتج جيلا من المهملين والمدمنين والشواذ لينضموا هم أيضا إلي جموع الناقمين غير المنتجين. إن مسئوليتنا تجاه الأبناء لا تعني فقط حمايتهم ودفعهم إلي تنفيذ ما نعتقد أنه الأفضل لهم, ولكنها تعني قبل كل شيء بناءهم حتي يصبحوا منتجين إيجابيين قادرين علي اتخاذ القرارات السليمة وحتي يصبحوا منتمين إلي بلادهم, وهذه ليست مسؤولية الآباء وحدهم ولكنها مسئولية كل راع في مكانه. وأذكر هنا موقفا شهدته في مطار استكهولم, كنت في طابور الجوازات عندما سمعت فتاة في الرابعة عشرة من عمرها تقول لوالديها إنها لا تجد جواز سفرها وإنها تعتقد أنها قد نسيته في الطائرة, سألتها الأم إن كانت قد فتشت حقيبتها بشكل جيد فأجابت الفتاة بالإيجاب, فأشار والدها إلي ضابطة تساعد الناس في القاعة وقال للفتاة اذهبي إلي الضابط وأخبريها, لم أشأ أن أترك المشهد فقد تعجبت من الوالدين اللذين لم يوجها كلمة لوم واحدة لابنتهما, ولم يتهماها بالإهمال أو الغباء, ولا أخذا حقيبتها ليفتشاها بنفسيهما, ولا عاتبا بعضهما نادمين علي عدم احتفاظهما بالأوراق الرسمية بدلا من ابنتهما, ولم يفكرا في الذهاب والحديث إلي الضابط بدلا من الفتاة لأن في ذلك تحجيم للبنت وقمع لشخصيتها, وبينما كنت أضع جواز سفري في الشباك سمعت الضابط تقول للبنت لا تقلقي في كل الأحوال أنت في بلدك وضياع جواز السفر لن يمنعك من عودتك لوطنك, سنساعدك ونساندك لا تقلقي, ولكن جواز السفر وثيقة هامة لا نريد أن تقع في اليد الخطأ, لذا سنتصل بطاقم الطائرة وسنتخذ الإجراءات اللازمة, شعرت أن الجميع من الأب والأم إلي الضابط يعملون من أجل بناء شخصية الفتاة دون الحاجة إلي أن يمارسوا وصاية أو قمعا وأيضا دون أن يهملوها لتضيع.