بالقدر الذي بدت فيه كلمة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أمام الجمعية العامة الثانية والسبعين للأمم المتحدة الثلاثاء الماضي قوية وعنيفة إلي الحد الذي حدا ببعض التقارير الصحفية إلي وصفها بالخطاب الناري, لما تضمنته من هجوم حاد علي كل من كوريا الشماليةوإيرانوفنزويلا, بالقدر الذي يصعب فيه التمييز بين ما إذا كانت هذه الكلمة محاولة لإعادة صياغة السياسة الخارجية الأمريكية, أو خارطة طريق لما سيتم خلال المرحلة المقبلة, أو أنها مجرد تنفيس عن أمنيات ومشاعر الرجل الذي اعتاد خلال أحاديثه وخطاباته التعبير عما يجيش بصدره والانفلات والخروج علي كل ما هو مألوف من الالتزام باللغة الدبلوماسية واعتبارات العلاقات الخارجية التي يتعين علي كل رئيس ألا يخرج عليها حرصا علي المصالح الأمريكية, وعلي صورته هو كرئيس لأقوي دولة في العالم. ويبدو أن وصول الرجل إلي البيت الأبيض وتسلمه مسئولية الرئاسة لم يغير من طبيعته الهجومية وطريقته الاستفزازية ولم يمكنه من التخلص من لغته المتهورة وتهديداته الجوفاء التي اعتاد إلقاءها خلال حملته الانتخابية, والتي مكنته من الفوز في سباقه الماراثوني إلي سدة الحكم, وغلب عليه طبعه في التهديد والوعيد بكل ما هو ممكن وما هو مستحيل. فقد بدا ترامب في كلمته المطولة التي ألقاها أمام نحو130 رئيس دولة وحكومة في المنظمة الدولية وكأنه يلقي خطبة عصماء غير مسئولة في حديقة هايد بارك في قلب لندن, حيث تسمح السلطات هناك لكل البريطانيين بالتعبير عما يدور في خلدهم من دون أي تحفظات كشكل من أشكال ديمقراطية الهواء الطلق, حيث تطرق الرئيس الأمريكي لاتفاقات دولية ملزمة أبرمتها الإدارة الأمريكية السابقة عليه, وتناولها بالنقد الكامل بما يوحي برغبته ونيته في التنصل منها أو إلغائها. وفي إطار هجومه الحاد علي بيونج يانج تطرق ترامب إلي الاتفاق النووي الذي أبرمته واشنطن والدول الكبري بعد مفاوضات مطولة جدا عرفت بمفاوضات1+5 مع إيران ووصفه بأنه اتفاق معيب, من دون أن يوضح ما إذا كان ينوي إلغاء أو تعديل الاتفاق أو أنه يكتفي فقط بإدانة سياسة سلفه باراك أوباما وإدارته, وانتقادها في العلن بلا هدف حقيقي إلا التنفيس عن عدم رضائه عن الاتفاق وعن السياسة الخارجية الأمريكية السابقة بشكل عام. فالاتفاق تم التوقيع عليه وانتهي الأمر, وأصبح ملزما لكل الأطراف التي وقعت عليه, وإلغاؤه أو تعديله ربما يستلزم موافقة باقي الأطراف, إلا إذا كان ينوي إلغاؤه من طرف واحد, ووقتها سيتعين عليه أن يبذل جهدا هائلا لإقناع الكونجرس وباقي مؤسسات صناعة القرار في بلاده, والنتائج مشكوك فيها, وذلك بالنظر إلي طبيعة الحكم في الولاياتالمتحدة. كلام ترامب عن إيران ووصفها بالديكتاتورية الفاسدة, لا يخرج عن كونه كلاما للاستهلاك العالمي, وعداء مصطنعا, إذ ماذا فعلت إدارته أمام تمدد النفوذ الإيراني وتدخل طهران في شئون دول الجوار وسعيها الدائم وفقا لتعبيره وراء الخراب والدمار؟! ورغم تهديدها المباشر لأمن واستقرار دول الخليج العربي حلفاء الولاياتالمتحدة لم تتخذ إدارته أي إجراء لوقفها عن تطوير برنامجها النووي, ودعمها للتنظيمات الإرهابية المتطرفة في عدد من الدول العربية, وتهديد جيرانها. وبلغ التناقض في كلمة ترامب مبلغه عندما قال إن أنشطة النظام الإيراني مزعزعة لاستقرار المنطقة, مضيفا: صدقوني, حان الوقت لأن ينضم إلينا العالم بأسره في المطالبة بأن توقف حكومة إيران سعيها خلف الموت والدمار. وهنا لابد من طرح سؤال مباشر هو: هل الولاياتالمتحدة في حاجة لمساعدة العالم لوقف إيران عند حدها؟ تلك الجمهورية التي فرضت عليها واشنطن من طرف واحد ودون الرجوع لأي دولة عقوبات اقتصادية موجعة لعقود, مع تجميد أرصدتها في البنوك الأمريكية؟ ترامب استثمر فرصة الانتقاد الشكلي للحكومة الإيرانية التي حولت علي حد قوله بلدا غنيا وذا تاريخ وثقافة عريقين إلي دولة مارقة مرهقة اقتصاديا وتصدر بشكل أساسي العنف وسفك الدماء والفوضي, للحديث عما وصفه بالإرهاب الإسلامي المتطرف الذي يمزق دولنا والعالم أجمع علي حد زعم الرئيس اليميني المؤيد لكل أشكال التمييز العنصري في بلاده. والملفت في خطاب ترامب تكراره استخدام مصطلح الإرهاب الإسلامي المتطرف الذي يثير غضب كل الدول الإسلامية ولاسيما الحليفة لواشنطن, غير عابئ بمشاعر مليار وسبعمائة مليون مسلم حول العالم, ومتجاهلا في الوقت نفسه الإرهاب الصهيوني في الأراضي الفلسطينية المحتلة, وإرهاب اليمين الأمريكي المتطرف, وغيره من أشكال الإرهاب والعنصرية حول العالم. كما جاء تهديده بتدمير كوريا الشمالية بالكامل التي وصفها بالدولة المارقة في حال تهديدها لبلاده ولحلفائها, حديثا انفعاليا عصبيا أكثر منه خطابا يكشف نوايا حقيقية لرئيس دولة كبري, وتهديدا كارثيا بعيدا كل البعد عن التعهدات الجادة القابلة للتطبيق, محذرا الزعيم الكوري الشمالي كيم جونج أون من أنه انطلق في مهمة انتحارية له ولنظامه, ومضي يقول إن الولاياتالمتحدة مستعدة وجاهزة وقادرة علي الرد عسكريا علي كوريا الشمالية ولكن نأمل أن لا نضطر لذلك. ولم يغب عن بال ترامب ذكر الوضع غير مقبول في ظل الديكتاتورية الاشتراكية في فنزويلا. اللافت في كلمة ترامب تجاهله التام لقضية السلام في الشرق الأوسط وملف المناخ وأزمة المسلمين الروهينجا في ميانمار, علي أهمية هذه القضايا وإلحاحها, وربما يفسر ذلك أن الوحيد الذي رحب بخطابه الناري كان رئيس وزراء الكيان الصهيوني بنيامين نتنياهو, فيما تباينت التعليقات الدولية الأخري بين مندد ورافض ومنتقد ومتحفظ علي كلمة الرئيس الأمريكي.