تتسلل أمل عامر, عبر ديوانها الأخير سراديب الروح, إلي نفوسنا متأبطة شعر العامية المنسوج من قصاقيص ذكرياتنا البعيدة والأثيرة. تلملمها, قطعة إلي جوار أخري, تتباين ألوانها وأشكالها, أحيانا بلون الشمس كما في قصيدتها( الكردان), وأحيانا أخري ببقايا ضوء القمر الخافت كما في( خيال المآتة). تمس ذكرياتنا القديمة والأثيرة بقلمها, أو إن شئت الدقة, بريشتها, تستحضر الزمان والمكان. رويدا رويدا, تتنفس أوراق الديوان عبق السنين فتزكم أنوفنا روائح الطرقات والحارات وتتجسد شخوصها حية قوية. تطل لحظات العمر الجميلة برؤوسها من شقوق الذاكرة علي استحياء, في البداية يكتنفها شئ من خجل, وما إن تتزاحم حتي تأنس ببعضها البعض, ثم تتقافز فرحا وسعادة مطوحة بخجلها من نافذة الحاضر. في قصائدها براءة الحب الأول. رجفة اللمسة الأولي. معايشة المكان بتفاصيله الصغيرة والكبيرة. رائحة البيت القديم. صوت الأب يرن في أنحاءه فتتسرب السكينة والأمان. عم عليوة, سقا الحارة ومرسال غرامها أحيانا. ينسكب همسه في آذان صبايا الحارة, كما ينسكب ماؤه في زير البيت. ينقل إليهن ومنهن.( عم عليوة سقا حارتنا/ وحواري كثير جنبينا/ دايما يملا زيارنا/ بشهده وبحنية قلبه/ وساعات بيعشش علي أحلامنا/ من أول ما بعت لي مرسالك/ مع عم عليوة). عندما أهدتني نسخة من الديوان سألتها, كيف تكتبين؟,( لا أدري, فجأة أمسك بالورقة والقلم واكتب ولا أرفع رأسي إلا وقد انتهيت من القصيدة, وأحيانا تراوغني الحروف والكلمات والمعاني. مرة اكتب في عربة مترو السيدات, ومرة في الأتوبيس, وأخري مع دموعي في زاوية البيت, اكتب والدموع تمسح), أجابتني أمل بعفوية. الكتابة عندها مثل الحمل والولادة, تتشكل القصيدة في رحم الذاكرة, من لحظات الألم تولد القصيدة, تتغذي بحبل المشاعر السري, تنمو مع الأيام والأحداث, أحيانا تتعاقب عليها دورة القمر مرات ومرات, وأحيانا بسرعة وسهولة شق شعاع الشمس طريقه لصباح نفتح نوافذه للأمل, نشد شمسه من شعرها ونلصقها علي الحيطان والأثاث والأرضيات, فيغمرنا تفاؤل. للقاهرة القديمة مكانة خاصة عند أمل, شارع المعز لدين الله, الحسين, خان الخليلي, الغورية, القلعة, حتي حاراتها, الروم, الكحكيين, حوش قدم, وغيرها جعلت منها ومن سكانها مكانا لأحداث قصائدها. مشغولة هي بغد يمسح دموع اليتامي والمساكين ويزرع زهرة في قلوب البائسين, تبحث عنه في قصيدتها( الحلم) قائلة:( وبتتولد في قلب حلم المتعبين/ وبتتبدر فراشات, نجوم تسبح في دنيا الأمنيات/ لما البشر تنسج دموعهم ثوب وجع/ تيجي مع بداية الحنين/ زي الشهاب.. بتدق بابهم بالأمل). تمر بخيال المآتة, فتتحدث عن صمته الأزلي وصبره الذي لا يلين, عن بهجته المكسورة في أرض بلغت شواشي أشجار مواجعها عنان السماء وهجرتها طيورها بعد ما احترقت أوكارها, تقول أمل:( من كام سنة/ فردوا الإيدين/ خطوا الشفايف والحواجب/ جابوا الهدوم/ من كل شكل وكل لون/ وبجرة من قلم الحياة/ رسموا علامة في أرض بور/ زرعوك فيها بكل قسوة/ لسنين طويلة وأنت شئ/ فارد إيديه للدنيا/ حاضن بهجته المكسورة فيه/ علي كتفه حاطه كل أسراب اليمام/ وكثير ما يقدر يحتمل ضرب الرياح). كلمات ربما تخطت حدود خيال المآتة إلي سراديب حياتنا, بقسوتها, بأحزانها, وأحيانا بأفراحها المراوغة, بسراب وعودها في صحراء عجزنا, بلهفة أرض تشققت شفاهها في انتظار غيث الأمل. نتطلع للسماء نستمطر غيماتها, نلقي بذور أمنياتنا, نفلح أرضها البور, تصطك أسنان سواقيها, تلفح وجوهنا الشمس, فيتمدد خلفنا ظل خيال المآتة.