تقول الأسطورة إن بروكرست كان حدادا يدعو زواره للمبيت عنده,ثم يضعهم علي سرير في بيته فمن زاد طوله عن السرير بتر الزائد منه, ومن كان أقصر مد أطرافه حتي تتمزق, والشخص الوحيد الذي ينجو منه هو الذي يناسب مقاسه السرير تماما. لكن هذه ليست أسطورة فحسب بل واقع الكثير منأ للأسف, فلدينا في أذهاننا سرير لبروكرست,لا يقبل أي شخص كما هو, بل نبادر نحن إلي حشره بالقوة في صورة نخلقها ونتخلص مما لا يوافقها, لذا يجب أن تقذف بهذا السرير خارج ذهنك وقلبك, وتتعلم أن للناس مقاسات ولهم أجسادا وعقولا ورؤي مختلفة, وأن لاتحشرهم داخل مخيلتك وتشوه حقيقتهم عنوة.. علي جانب مشابه, وفي نهار مشمس يافع السطوع وبالغ الحر,وفي أثناء عودتي من جهة عملي بعد بضع ساعات شاقة أجبرتني طقوس العمل حينها علي امتطاء قدمي مابين السير في مربعات متباعدة والوقوف في طوابير متفرقة لاستكمال عدة أوراق ومتطلبات تخص العمل, وفي طريقي دخلت إلي أحد كافيهات المحروسة التي لاقت استحساني لهدوئها وكلاسيكيتها, وبينما أجلس علي طاولتي لفت انتباهي ملامح الحيرة والصدمة علي وجه النادلةالجرسونة التي لم تلتفت حتي لدخولي عبر الباب أمامها بل تسمرت في مكانها, تتشبث في صمت بالغ ببعض النقود في يدها وتنظر إليها في حزن, وتجهش وجهها بعض علامات التجهم والبكاء, فسبقت شفقتي فضولي ودفعتني لسؤالها عما بها دون تردد ظنا مني أنها قد تكون بحاجة للمساعدة, فإذا بها هي الأخري تنطلق بالشرح فقالت: دخل صبي يبلغ من العمر عشر سنوات الي المقهي هنا وجلس علي تلك الطاولة,فوضعت كأسا من الماء أمامه, فسألني الصبي: بكم الآيس كريم بالكاكاو؟..أجبته: بعشرة جنيهات, فأخرج الصبي يده من جيبه وأخذ يعد النقود التي معه, ثم سألني مرة أخري حسنا,وبكم الآيس كريم وحده فقط بدون كاكاو؟..في هذه الأثناء كان هناك الكثير من الزبائن ينتظرون خلو طاولة في المقهي للجلوس عليها,فبدأ صبري بالنفاد فأجبته بفظاظه: بثمانية فقط,فعد الصبي نقوده وقال سآخذ الآيس كريم العادي.. أنهي الصبي الآيس كريم ودفع حساب الفاتورة وغادر المقهي وعندما عادت الكرسونة إلي الطاولة اغرورقت عيناها بالدموع أثناء مسحها للطاولة, لقد حرم الصبي نفسه ما يشتهي حتي يوفر لنفسه جنيهين يكرم بهما الكرسونة.. لم أعرف حينها ما الرد المناسب للموقف فالتزمت الصمت لبرهة, حيث ذهبت بتفكيري تارة إلي ذاك الصبي خشية أن تكون تأذت روحه الطيبة من فظاظة المعاملة, ولكن نظرتي لملامح الندم والحزن البادية علي وجهها جعلتني تارة أخري أشعر أنها تتألم بما يكفي,وأنها ليست بحاجة الآن للنصيحة قدر ما هي بحاجة إلي من يخفف عنها حدة الشعور بالذنب وتأنيب الضمير, ولكن ربما علي من الواجب أيضا الدفاع عن حق تلك الروح الصغيرة..وما بين تلك الأفكار المتزاحمة في رأسي في نفس اللحظة, قاطعت صمتي الذي أحسست أنه يثقلها بمزيد من الأسف, وقلت لها هوني عليك لا أعتقد أن روحه الجميلة تلك ستغضب أو تسيء فهمك, في الغالب ستلتمس لك العذر في ضغوط العمل, ويكفي شعورك بالألم والأسف. وربما ما حدث هو علامة فقط نقيس عليها الأمور فيما بعد بنظرة جديدة, فجميعنا كثيرا ما نقع في حرج أو نتسبب في شحن النفس تجاه أناس آخرين يحملون لنا الكثير من الحب والتقدير,وربما لنتعلم أن الفرق كبير جدا بين البخل والفقر..وأنه من الممكن أن تكون أكرم الناس ولكن الفقر يجعلك في نظر بعض الناس بخيلا..وألا تقيم الناس بمظاهرهم و فقرهم..ولكن تقيمهم بأخلاقهم ومدي تقديرهم لك.