لم يوجد شخص في تاريخ الإسلام أوقف حياته وفنه وجل اهتمامه في جمع سيرة الرسول ومعرفة أسراره وأخباره وإفراغ كل طاقته علي مدح الرسول وذات الله العلي العظيم مثل الإمام المصري البوصيري. وهو محمد بن سعيد بن حماد الصنهاجي, ولد في قرية بوصير ببني سويف في مصر أول شوال608 ه, حيث ترجع أصوله إلي قبيلة صنهاج احدي أكبر القبائل الأمازيغية المنتشرة في شمال افريقيا. حفظ القرآن صغيرا وتتلمذ علي أعلام عصره أمثال أبوحيان الغرناطي, وأبوالعباس المرسي, وفتح الدين العمري الأندلسي الاشيلي المعروف بابن سيد الناس. أوقف البوصيري شعره وفنه علي مدح الرسول ومن قصائده المشهورة في ذلك بائياته الثلاث ومطلعها: الأولي: أرفعوا البين وشدوا الركابا فاطلب الصبر وخل العتابا الثانية: بمدح المصطفي تحيا القلوب وتغتفر الخطايا والذنوب الثالثة: وافاك بالذنب العظيم المذنب خجلا يعنف نفسه ويؤنب وله في مدح ذات الله جل وعلا عدد من القصائد منها قصيدته الحائية: يا من خزائن ملكه مملؤة ندعوك عن فقر إليك وحاجة فاصفح عن العبد المسيء تكرما كرما وباب عطائه مفتوح ومجال فضلك للعباد فسيح إن الكريم عن المسيء صفوح ولكن يشتهر البوصيري بقصيدته البردة, فقد مرض مرضا شديدا فقطع علي نفسه عهدا إن شفاه الله أن ينظم قصيدة في مدح الرسول( صلي الله عليه وسلم) خير البرية, وكان قديرا في نظمها أثناء مرضه, فلما انتهي منها رأي في المنام رسول الله يمر بيده الكريمة علي جسمه كله فيبرأ, ولذلك سميت القصيدة باسم البراءة ولقد جازاه الرسول بأن خلع بردته عليه, ولذا سميت كذلك بالبردة. وتصوف البوصيري أساسه محبة الرسول صلي الله عليه وسلم, وأغلب شعره يرد علي منكري نبوة الرسول من غير المسلمين, ويشيد بالقرآن وإعجازه ويدعو إلي الزهد ومخالفة النفس والندم والاستغفار. وذاع صيت البردة فصارت نشيد الصوفية في مجالسهم, وصارت تنشد في الاحتفالات الدينية تشفعا بالنبي لكونها قصيدة الشدائد وصارت لها قصائد تعارضها وتقلدها, وترجمت إلي عشرات اللغات في العالم. ولا أحسب أحدا استطاع أن يمدح النبي صلي الله عليه وسلم قبل كعب بن زهير بأفضل من بيته المشهور: إن الرسول لنور يستضاء به مهند من سيوف الله مسلول إلا البوصيري من بعد ذلك حين قال: محمد سيد الكونين والثقلين نبينا الآمر الناهي فلا أحد والفريقين من عرب ومن عجم أبر في قول لا منه ولا نعم وما يميز البوصيري عن كعب, أن البوصيري صوفي ولذلك وصف النبي بما يحبه الصوفية في نبيهم: هو الحبيب الذي ترجي شفاعته دعا الله فالمستمسكون به فاق النبيين في خلق وفي خلق وكلهم من رسول الله ملتمس فهو الذي تم معناه وصورته منزه عن شريك في محاسنه دع ما ادعته النصاري في نبيهم وانسب إلي ذاته ما شئت من شرف فإن فضل رسول الله ليس له لكل هول من الأهوال مقتحم مستمسكون بحبل غير منفصم ولم يدانوه في علم ولا كرم غرفا من البحر أو رشفا من الديم ثم اصطفاه حبيبا بارئ النسم فجوهر الحسن فيه غير منقسم واحكم بما شئت مدحا فيه واحتكم وانسب إلي قدره ما شئت من عظم حد فيعرب عنه ناطق بعم ولم يقصر شعره وفنه علي مدح الرسول, وناجي الله في قصيدته الدالية يقول: إلهي علي كل الأمور لك الحمد لك الأمر من قبل الزمان وبعده وحكمك ماض في الخلائق نافذ فليس لما أوليت من نعم حد ومالك قبل كالزمان ولا بعد إذا شئت أمرا ليس من كونه بد وكان انتاج البوصيري في الشعر والمدائح كبيرا وما وصلنا منه ديوان شعر الكواكب الدرية في مدح خير البرية وقصيدته ذخر المعاد ولاميته في الرد علي اليهود والنصاري بعنوان: المخرج والمردود علي النصاري واليهود وله أيضا كتاب في تهذيب الألفاظ العامية. وتوفي البوصيري بالإسكندرية سنة696 ه عن87 سنة.