تتباين نظرة الناس إلي الشتاء كل بما وقر في نفسه, وما مر في حياته من ذكريات مشهد سقوط الأمطار. فمن الناس من تجمد نظرته عن الأمل والتفاؤل بقدر ما تجمد أطرافه من برد الشتاء القارس, ومنهم من يري فيه عرقلة الحياة بقدر ما تغوص قدمه في وحل الأرض, ومنهم من يتشوق إلي دفء المشاعر وحنان العواطف بقدر ما ارتسم في مخيلته من اجتماع الأسرة والخلان حول نار أوقدوها للاستدفاء.والحق أن للشتاء بجوه البارد ومطره الهاطل من السماء نظرة أرحب في ضوء القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة, تعكس أثرا أعمق في حياة الإنسان تزيده إيمانا بربه ومحبة لنبيه, وصلة بمجتمعه وحرصا علي وطنه. وعن المطر وعلاقة الإنسان بربه يقول الدكتور ياسر محمود المزارة بكلية أصول الدين والدعوة جامعة الأزهر بطنطا يأتي مشهد إنزال المطر من السماء مؤكدا لاعتقاد الإنسان في أن ربه هو خالق كل شيء, وما الأسباب إلا مظهر لقدرة الله تعالي الفاعلة علي وجه الحقيقة, فرغم ما يصاحب إنزال المطر من أسباب فإن الله تعالي هو منزله, قال تعالي{ أفرأيتم الماء الذي تشربون(68) أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون(69) لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون(70)}, الواقعة:68-70]. ويقرر النبي هذه الحقيقة لأصحابه رضي الله عنهم ذات صباح بعد مطر بليل, فعن زيد بن خالد الجهني, أنه قال: صلي لنا رسول الله, صلاة الصبح بالحديبية علي إثر سماء كانت من الليلة, فلما انصرف أقبل علي الناس, فقال: هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم, قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر, فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته, فذلك مؤمن بي وكافر بالكوكب, وأما من قال: بنوء كذا وكذا, فذلك كافر بي ومؤمن بالكوكب رواه البخاري ومسلم ومن ثم فلا يصح للمرء أن يعاتب قدرا علي إنزال مطر, أو أن يسب دهرا, أو يصف يوما بأنه أسود, ويضيف كما يجعل الله تعالي إنزال الماء من السماء تثبيتا للقلوب وطردا لرجز الشيطان ووساوسه الواعدة بالفقر والاحتياج, قال عز من قائل{ وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط علي قلوبكم ويثبت به الأقدام}, الأنفال:11]. كما يصف الله تعالي الماء النازل من السماء بالرحمة والرياح التي تسبقه وتحمله بالبشري, يقول تعالي{ وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته}, الأعراف:57]. ويصور الله حال الناس عند نزول المطر ببلوغ البشري حدها داخل النفس الإنسانية, قال تعالي{ الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفا فتري الودق يخرج من خلاله فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون(48)}, الروم:48]. كما يسمي الله تعالي المطر النازل من السماء رزقا إشارة إلي كونه قد اشتمل علي رزق الأناسي والدواب, وهذا ما دعا بعض المفسرين من تخصيص معني الرزق بالمطر في قوله تعالي{ وفي السماء رزقكم وما توعدون(22)}, الذاريات:22], وقال عز وجل{ وينزل لكم من السماء رزقا}, غافر:13] أي مطرا, وقال{ واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون(5)}, الجاثية:5]. وعن إنزال المطر من السماء ومحبة النبي, يقول د. المزارة كما أحيا الله الأرض بماء السماء أحيا الله تعالي القلوب بنبيه المجتبي المختار صلي الله عليه وسلم, ومن ثم وصف الله تعالي دعوته بالحياة فقال{ ياأيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم}, الأنفال:24]. وبه, ينزل الله تعالي المطر, فإذا كان نزول الغيث نشر رحمة الله تعالي فيستحب عنده الدعاء, وبذل العطاء, وبمثل هذا ضرب الله المثل للمعطي بالماء النازل من السماء الزائد من عطاء الأرض, قال تعالي{ ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير(265)}, البقرة:265]. ويؤكد المزارة إن إنزال المطر من السماء دعوة إلي حسن الخلق حيث يرتبط حسن الخلق بالحياء, بل الحياء هو عماد حسن الخلق, ومن ثم قال, إن مما أدرك الناس من كلام النبوة, إذا لم تستح فاصنع ما شئت رواه البخاري. وأصل كلمة الحياء من الحيا, وهو اسم للماء النازل من السماء, فكما أن الماء ينبت الزرع في الأرض كذلك ينبت الحياء الخير كله في القلب. وأخيرا يوضح فيقول إن الله تعالي قص علينا في القرآن قصة أمة زال خيرها وتبدد شملها بسيل عرم من مطر مدمر, بعد أنعم كفروها, وحقوق أنكروها, هذه الأمة هي قوم سبأ, الذي قال الله فيهم{ لقد كان لسبإ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور(15) فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل(16) ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور(17)}, سبأ:15-17]. فشكر نعمة المسكن والموطن بالحفاظ علي خيراتها واستثمارها سبيله الأمثل الإقبال علي الله تعالي لا الإعراض, فهو القادر وحده علي حفظها من الشر, وحمايتها من العدوان. ويعطينا الله تعالي نحن المصريين بشري سوق الماء إلينا فيقول{ أولم يروا أنا نسوق الماء إلي الأرض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون(27)}, السجدة:27], كما قال بعض المفسرين أن الأرض الجرز اليابسة- هنا يقصد بها أرض مصر. فمصر تولي الله تعالي جريان الماء إليها. د. عبدالله أبوالفتح: يطول الليل للقيام ويقصر النهار للصيام يقول الدكتور عبد الله أبو الفتح بكلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنين جامعة الأزهر بالقاهرة فقد روي عن رسول الله, أنه قال:, الشتاء ربيع المؤمن...], وإنما سمي الرسول الكريم الشتاء ربيعا للمؤمن; تشبيها له بفصل الربيع الذي تتفتح فيه الأزهار وتدنو الثمار وتكثر الظلال, ويصحو الجو وينتشر العليل فيستنشق الناس روائح الأزهار الجميلة ويمتعون عيونهم بالنظر إلي أشكالها البديعة, وينزهون أجسادهم تحت ظلال الأشجار المورقة في جو صحو ونسيم عليل, فكذلك فصل الشتاء بالنسبة للعباد والصالحين لما كان كما قال الرسول الكريم, الشتاء ربيع المؤمن], وبين ذلك بقوله:, طال ليله فقامه, وقصر نهاره فصامه] كان زمانا مناسبا يتمتع فيه المؤمنون وهم العباد الصالحون والأبرار المتقون بظلال بساتين الطاعات المتنوعة والقربات الكثيرة, فيعمرون نهارهم القصير بقراءة القرآن والأذكار الصيام وينورون لياليهم الطويلة بمذاكرة العلم بالتلاوة والدعاء والقيام,فيحصل التنافس بين الطائعين في ميادين العبادات المتنوعة لتتنزه قلوبهم في رياض الكثير من الأعمال الصالحة. وقد أثر عن كثير من الصحابة والتابعين وغيرهم من العلماء والصالحين كلام نفيس في فضل التنافس في الأعمال الصالحة بأنواعها المتعددة في فصل الشتاء, فمن ذلك أن سيدنا عمر بن الخطاب- رضي الله عنه قال, الشتاء غنيمة العابدين], وقال سيدناعبد الله بن مسعود- رضي الله عنه, مرحبا بالشتاء, تنزل فيه البركة, ويطول فيه الليل للقيام ويقصر فيه النهارللصيام], وقال الحسن البصري, نعم زمان المؤمن الشتاء ليله طويل يقومه, ونهاره قصير يصومه], وقال قتادة بن دعامة:, إن الملائكة تفرح بالشتاء للمؤمن يقصر النهار فيصومه ويطول الليل فيقومه], وعن عبيد ابن عمير أنه كان إذا جاء الشتاء, يا أهل القرآن! طال ليلكم لقراءتكم فاقرأوا, وقصر النهار لصيامكم فصوموا], ووعظ يحيي بن معاذبعضهم مذكرا له باغتنام العبادة والبعد عن المعاصي في ليل الشتاء قائلا: الليل طويل فلا تقصره بمنامك, والإسلام نقي فلا تدنسه بآثامك. ويوضح ابو الفتح انه قد روي ان الترمذي في سننه في بيان فضل اغتنام الصيام في نهار الشتاء أن النبي-, قال, الغنيمة الباردة الصوم في الشتاء] والمقصودب, الغنيمة الباردة]أن المؤمن يتحصل علي الحسنات الكثيرة بغير تعب أو مشقة, فالذي يشغل نهاره بالصيام في فصل الشتاء يحوز هذه الغنيمة بيسر وسهولة لأن حرارة العطش لا تنال الصائم في ذلك الزمان القصيربين الفجر والمغرب, ولهذا قال سيدنا أبو هريرة- رضي الله عنه مرة للتابعين:, ألا أدلكم علي الغنيمة الباردة], فقالواله: بلي, فقال لهم: الصيام في الشتاء]. وأقل ما ينبغي للمسلم أن يحرص علي صيامه في أيام الشتاء هي تلك الأيام التي أوصانا رسول الله ذ وهم الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من الشهر الهجري, وكذلك صوم يوم الاثنين والخميس فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال:, أوصاني خليلي, بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر, وركعتي الضحي, وأن أوتر قبل أن أنام]. ويضيف الدكتور ابو الفتح ولأن ليالي الشتاء تكون قارسة البرودة وعمارتها بالصلاة وقراءة القرآن تستلزم الوضوء فقد جعل الله عز وجل للوضوء فقد جعل الله عزوجل للوضوء مع شدة البرد أجرا جزيلا فقد روي عن النبي, انه قال: ألا أدلكم علي ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلي يا رسول الله قال: إسباغ الوضوء علي المكاره وكثرة الخطا الي المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط د. نبيل عجيب: من اعتبر وصبر يسلم من زمهرير جهنم يقول الدكتور نبيل عجيب من علماء وزارة الاوقاف إن الشتاء أمره عجيب لمن تذوق طعم العبادة فيه وقد ذكر الله تعالي من أوصاف أهل الجنة أنهم{ كانوا قليلا من الليل ما يهجعون}, سورة الذاريات:17] ومما يدخل الجنة بسلام الصلاة بالليل والناس نيام. وقد كان العابد منهم كالنجم الساطع في ليالي الشتاء وضاء منيرا ولهذا أثر عن غير واحد من السلف عند مشهد الاحتضار أنهم يبكون قيام ليالي الشتاء: ومنها أنه لما احتضر أحد السلف بكي فقيل له: أتجزع من الموت وتبكي. فقال: ما لي لا أبكي ومن أحق بذلك مني؟ والله ما أبكي جزعا من الموت, ولا حرصا علي دنياكم, ولكني أبكي علي ظمأ الهواجر وقيام ليل الشتاء. وليس هذا بغريب فإن في العبادة لذة لا يعلمها إلا الله ومن فقدها فهو محروم وسمعنا عن كثير من العلماء من المتقدمين والمتأخرين أنهم يعكفون علي طاعة الله وطلب العلم في وقت غفل الناس فيه عن هذا وناموا وتجد الواحد منهم يسهر الليالي الطوال مجتهدا في ذلك طلبا وتحصليا وتحقيقا للمسائل وتخريجا وتثبتا في الأحاديث وتبحرا في العلوم. ويؤكد د. نبيل عجيب ان الشتاء بحد ذاته موعظة ففي شدة برده عبرة وعظة لمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فقد ثبت في الصحيح أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: واشتكت النار إلي ربها فقالت يا رب أكل بعضي بعضا فأذن لها بنفسين نفس في الشتاء ونفس في الصيف فهو أشد ما تجدون من الحر وأشد ما تجدون من الزمهرير, رواه البخاري ومسلم], ومن وقف عند ذلك فتأمل واعتبر كان ذلك تسلية وتصبيرا له علي العبادة حتي يسلم من زمهرير جهنم وحرها, وتوجب عليه الاستعاذة من زمهريها. وفي الشتاء تنزل البركات وتنشر الرحمات من رب الأرض والسماوات, قال تعالي:{ وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد}, سورة الشوري:28] وفي سورة الأنبياء يقول:{ أولم ير الذين كفروا أن السموت والأرض كانتا رتقا ففتقنهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون}, سورة الأنبياء:30]. يقول ابن عباس: كانت السماوات رتقا لا تمطر, وكانت الأرض رتقا لا تنبت, فلما خلق للأرض أهلا فتق هذه بالمطر, وفتق هذه بالنبات. وقد وصفه الله تعالي بالبركة: يقول سبحانه: ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد, سورة ق:9]. وصاحب القلب الحي يذكر الله في كل وقت وحين نزول المطر ويأتي بالسنن الواردة عن النبي صلي الله عليه وسلم: قال أنس- رضي الله عنه-: أصابنا ونحن مع رسول الله صلي الله عليه وسلم مطر قال: فحسر رسول الله صلي الله عليه وسلم ثوبه حتي أصابه من المطر فقلنا: يا رسول الله لم صنعت هذا, قال: لأنه حديث عهد بربه تعالي, رواه مسلم]. وكذلك فإن من السنة إذا هطل المطر أن يقول المسلم اللهم صيبا نافعا. وبعد نزوله يقول: مطرنا بفضل الله ورحمته. وقال سبحانه{ والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلي حين}, النحل:80]. قال رسول الله,:( اشتكت النار إلي ربها فقالت: يارب أكل بعضي بعضا فأذن لي بنفسين, نفس في الشتاء ونفس في الصيف, فهو أشد ما تجدون من الحر, وأشد ما تجدون من الزمهرير) متفق عليه, والمراد بالزمهرير شدة البرد. قال ابن رجب: فإن شدة برد الدنيا يذكر بزمهرير جهنم. وهذا مايوجب الخوف والاستعاذة منها, فأهل الإيمان كل ما هنا من نعيم وجحيم يذكرهم بما هناك من النعيم والجحيم حتي وإن شعر القوم بالبرد القارس فيدفعهم هذا إلي تذكر زمهرير جهنم, ويوجب لهم الاستعاذة منها, ويذكرهم بالجنة التي يصف الله عزوجل أهلها فيقول عزوجل( متكئين فيها علي الأرائك لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا) الانسان13, قال ابن رجب: فنفي عنهم شدة الحر والبرد. قال قتادة: علم الله أن شدة الحر تؤذي وشدة البرد تؤذي فوقاهم أذاهما جميعا. فيدفعهم هذا إلي النصب وإلي التهجد فكل ما في الدنيا يذكرهم بالآخرة. وعن عمر رضي الله عنه قال: الشتاء غنيمة العابدين. رواه أبو نعيم باسناد صحيح, وإنما الأيام مراحل يقطعها الإنسان مرحلة مرحلة وأفضل الناس من أخذ في كل مرحلة زادا للآخرة.