هم يكسو الوجوه وضيق يملأ النفوس وقلة حيلة تنطق بها العيون قبل الأفواه بعد أن تمكن اليأس منهم في رحلة البحث عن زبون واحد يعرف الطريق إلي الترجمان, هذا هو المشهد داخل السوق المؤقتة التي نقل إليها باعة منطقة وسط البلد وفقا لتأكيدات وتصريحات الحكومة قبل نقلهم إلي هناك بعد سلسلة من المطاردات ومشادات الكر والفر مع الباعة الجائلين. سوق مؤقتة لحين تجهيز أرض وابور التلج بالقرب من ميدان التحرير ونقل الباعة إليها عقب تجهيز المكان بالشكل اللائق وذلك خلال6 أشهر, وهو التصريح الذي صدر عن الدكتور جلال سعيد محافظ القاهرة آنذاك كوعد تلتزم به الحكومة مع الباعة لإنهاء أزمات الطرفين معا فيجد الباعة مكانا آمنا لهم يستقرون فيه مع بضائعهم دون التعرض لأي مضايقات وفي المقابل توفر الحكومة لهم فرصة للعمل الشريف وحل أزمة الباعة الجائلين من جذورها- علي حد وصفه- دون خرق القانون أو تعطيل المرور وأخيرا إنهاء حالة الفوضي التي كانت قد بدأت في إحكام سيطرتها علي وسط البلد أحد أهم المناطق بالعاصمة. ووفقا لهذا العقد غير المكتوب بين الحكومة والباعة الجائلين تم افتتاح الترجمان لتتصدر أخبار السوق الجديدة عناوين الصحف وبرامج التوك شو كل ليلة, لتختفي أخبار الترجمان والموجودين فيه لفترة كبيرة تخطت ال6 أشهر مهلة الانتقال لوابور التلج وتبدأ تساؤلات الباعة حول تنفيذ الوعد لتعود التصريحات الحكومية بوعد جديد بصعوبة النقل إلي وابور التلج بسبب دخول المنطقة ضمن مشروع تطوير مثلث ماسبيرو ليتم الإعلان عن مهلة جديدة لنقل باعة الترجمان إلي سوق الزاوية, وهي النقطة التي انطلق منها حديث علي سيد محمود, أحد باعة الترجمان, مشيرا إلي عدم تنفيذ الوعد الأول أو الثاني من الحكومة سواء بالنقل إلي وابور التلج أو سوق الزاوية. وبنبرة حزينة قرر صاحبها أن يتمسك بالقشاية التي يحلم بها الغريق قائلا إحنا بقالنا27 شهرا علي الوضع ده مفيش زبون واحد بيدخل علينا السوق وبنفضل قاعدين وشنا في وش بعض طول اليوم, مضيفا أن وجود الوكالة علي بعد شارعين من الترجمان جعل السوق بلا قيمة. ويشير إلي الظروف المعيشية القاسية التي يعانيها معظمهم بسبب ضيق الرزق مؤكدا أنهم صدقوا الحكومة وهي كدبت عليهم, ويوضح أنهم انتظروا الانتقال إلي أرض وابور التلج لتبدأ مرحلة جديدة يكونون فيها جزءا من وسط البلد بشكل مشروع وداخل مكان حيوي وفقا لما أكدته تصريحات المسئولين عن المول التجاري الكبير الذي كان من المفترض أن يضم الباعة الجائلين بوسط البلد, ثم إعلان الحكومة عن صعوبة تنفيذ ذلك لأنها أرض غالية علي حد قوله واللجوء إلي منطقة الزاوية والبناء بالقرب من سوق غزة وهو ما لم يحدث أيضا. ليتحدث من جديد عن ظروف كل بيت اتقفل واتداين بسبب النقل إلي الترجمان ويتساءل: يرضي مين وقف الحال اللي احنا فيه؟ مين يقدر يستحمل يفضل كل ده من غير مصدر رزق ثابت. ويشكو علي التضارب وعدم وجود حل نهائي لأزمة باعة الترجمان قائلا حد من الحكومة ييجي فجأة ويشوف لو قابل زبون واحد في قلب السوق يبقي له الحق مشيرا إلي أن هناك العديد من الباعة أصعب وأقسي حالا منه قائلا: أنا قبل الثورة كنت بشتغل في السياحة ومتعلم والله ومعايا لغات لكن ده أكل عيشي دلوقتي ومسئول عن أسرة وأولاد لازم الحكومة تفكر فيهم, لينهي حديثه قائلا احنا اتدبحنا. ويوضح أبو رياض, أحد الباعة المنتقلين من وسط البلد إلي الترجمان, أن سوق الزاوية انتهت وباتت جاهزة لاستقبال الباعة ولكن ترفض المحافظة تنفيذ الوعد مشيرا إلي أن الحكومة خلفت الوعد أكتر من مرة في حاجة مينفعش تأجيلها عشان تتعلق بأكل العيش. وتحدث عن أولاده الخمسة بنبرة حزينة قائلا: عمال بأجل في جواز بنتي بقالي سنتين ومش عارف هجوزها إزاي؟!, مضيفا أن الباعة الجائلين لا يختلقون أزمات ولا يسعون لها ولكنهم يبحثون عن حقهم أولا ثم الوعد الذي نطق به مسئولو الدولة بخصوص الباعة الأساسيين الذين تم نقلهم إلي الترجمان, موضحا أن لهم الأولوية عن غيرهم في الانتقال إلي سوق الزاوية ولا يمكن السماح لغيرهم بالانتقال إلي هناك بعد المعاناة التي عاشوها علي مدار أكثر من عامين. ويشكو سيد رمضان مرارة الانتظار ليس فقط لتحقيق حلم وابور التلج ولكن أيضا سوق الزاوية التي تابعوا مراحل تشييدها وإقامتها منذ البداية لتقف الآن أربع بوابات عائقا أمام نقلهم إليها علي حد تصريحات مسئولي المحافظة كما أوضحها, مشيرا إلي اعتمادات مالية جديدة أعلنت عنها المحافظة من أجل إنشاء بوابات حديدية للسوق, ليقاطع حديثه بنفسه قائلا: وبعد كده هيطلعوا يقولوا عايزين نستني تطوير المنطقة المحيطة بالسوق ومش هنخلص من الدايرة دي. ويقول: إن باعة الترجمان حصلوا علي عشرات الوعود والمواعيد لإنهاء أزمتهم ولكن لم يحدث جديد طوال27 شهرا بل أصبحوا بعد كل هذا الانتظار مهددين بتسليم السوق إلي مجموعة جديدة من الباعة الجائلين من خارج مجموعة وسط البلد والذين يعانون من المشكلة في الأساس, لينهي حديثه مؤكدا أن الباعة لا يهتمون بتصريحات ملايين التطوير والتخصيص بل ما يشغلهم مصدر رزق ثابت يضمن لأسرهم قوت يومهم. لتلتقط منه أطراف الحديث أم إبراهيم هذه السيدة التي تعرفت إلي اسمها في نهاية الحديث لأنها بدأت الحديث بما هو أهم من ذلك أروح فين أنا عندي خمس أولاد أكبرهم ثانوية عامة وأصغرهم سنة ونص بهذا السؤال الذي لا تنتظر إجابته انطلق حديثها عن معاناة السيدات المعيلات في سوق الترجمان, حيث أوضحت أنها تنتظر كغيرها النقل إلي سوق الزاوية وتحلم بحل أزمتهم قائلة: لازم يشوفوا حل بسرعة لأننا مش عارفين ناكل عيش هنا ولا قادرين نسيب المكان عشان نفضل حافظين حقنا لعل وعسي نتنقل. وتؤكد علي أحقية باعة الترجمان في سوق الزاوية لأنهم أصحاب الباكيات الموجودة هناك وبالأسماء المدونة في المحافظة, لهم أولوية الانتقال خاصة بعد عدم تنفيذ وعد الحكومة بنقلهم إلي وابور التلج, لتنهي حديثها بنبرة باكية إحنا داخلين علي شتا وأنتوا متعرفوش الشتا عامل إزاي هنا ومش عارفين يعني إيه نفضل كل ده أكل عيشنا واقف كده. أما محمود شعبان فقد بدأ حديثه بنبرة عتاب حزينة قائلا: كلامنا ده أمانة في رقبتك إحنا مش لاقيين حد يوصل اللي بنقوله ولا يقول كلمة حق تساعدنا في الحال اللي إحنا فيه, لينتقل بعدها للحديث عن السجن الذي يقضي فيه باعة الترجمان وقت النهار ما بين فترتي الحضور والانصراف كأي عامل أو موظف في شركة, مستنكرا الوضع قائلا: علي الأقل لو كنا في شركة كنا نلاقي قبض آخر الشهر. ويوضح أن الحكومة وعدت ولم تف فاضطر الباعة إلي التواجد في الترجمان نهارا والعمل في مكان آخر ليلا لتدبير نفقات أسرهم ولكن لم تستطع الغالبية العظمي منهم القيام بذلك لتبدأ رحلة الديون وبيع أثاث المنزل واكتفاء الأبناء بما وصلوا إليه من مراحل تعليمية وعدم الانتظام بالمدارس والجامعات وأخيرا الانفصال عن الزوجات بسبب صعوبة تحمل أعباء المعيشة. لينهي محمود حديثه بنبرة غاضبة قائلا: إحنا قربنا نموت, ولو إننا ميتين فعلا دلوقتي في المقبرة اللي إحنا فيها بعد ما سبنا فيه الشارع اللي كان رزقنا فيه علي الله وحده. وتحدث عادل عيد عبد السلام عن تصريحات المسئولين الخاصة بتأجيل النقل قائلا: مرة يقولوا لنا قربتوا ومرة يقولوا في مشكلة في التمويل ومرة صندوق العشوائيات هو المسئول عن التمويل وساعات يقولوا لسه مستلمناش السوق من الوزارة, مشيرا إلي أن هذه الأسباب أو حتي غيرها لا دخل للباعة بها لأنهم انتقلوا وساعدوا الدولة علي تحقيق النظام في شوارع وسط البلد فهل يكون هذا هو الجزاء. ويشير إلي أن المتابعة الإعلامية لأزمة الباعة الجائلين توقفت بعد نقلهم إلي الترجمان وكأن المشكة انتهت باختفاء الباعة الجائلين من الشارع رغم أنها لا تزال قائمة في الوضع المأساوي الذي وصل إليه الباعة. لتبدأ نادية شفيق إبراهيم حديثها بالبكاء قائلة: إحنا وصلنا لمرحلة إننا مش لاقيين نجيب رغيف عيش, لتستكمل رواية ظروفها القاسية دون انقطاع: ابني عنده عجز في رجله وأنا تعبانة وتقريبا بقيت بشحت العلاج, ووسط كل ده جت مشكلة الترجمان وقعدتنا فيه وكل ما نسأل في المحافظة يقولوا الشهر الجاي. ده ميرضيش ربنا بهذه العبارة قاطعت فوزية محمد عبد الله, إحدي السيدات العاملات بالسوق, حديثنا قائلة: أنا بقالي30 سنة ببيع في الشارع وكنت بدبر حالي لحد ما نقولنا هنا من سنتين ونص, مشيرة إلي أنها أرملة تعول5 أبناء لا تتمكن من تدبير نفقاتهم بسبب عدم نقلهم وممارسة عملهم بشكل طبيعي وسط أماكن يعتاد المواطنون الذهاب إليها والشراء منها مثلما كان الحال في وسط البلد. وأوضحت فوزية أنها قامت ببيع أثاث منزلها مشيرة إلي صعوبة اللجوء إلي الشارع مرة أخري قائلة: أنا مش حمل أفرش في الشارع والبلدية تجري ورايا. ويتساءل محمد كرم: إحنا موقفنا إيه دلوقتي؟ مشيرا إلي آخر تصريحات المسئولين بمحافظة القاهرة, تلك التصريحات التي يحفظونها عن ظهر قلب ويحتفظون بها لتوثيق الوعود التي اتخذتها الحكومة علي نفسها ومازالت تعجز عن تنفيذها. ويوضح أن الشارع لم يعد يصلح لهم بسبب المطاردات قائلا: مش هقدر أدفع غرامة لو اتمسكت ومش هعرف أشتغل وأنا هبان كده, لينهي حديثه مؤكدا أن الجميع يسعي لهدف واحد فإذا كان هدف الدولة القضاء علي فوضي الشارع وعدم السماح للباعة الجائلين بالانتشار بها فإن الباعة لا يتمسكون بالشارع ولكنهم فقط يريدون سوقا دائمة لا تشبه منفي الترجمان. أما هانم محمد فلم يكن لها من اسمها نصيب, هذه السيدة التي تحدثت بمرارة شديدة مدافعة عن حق أولادها في مصدر رزق ثابت كانت توفره لهم أثناء عملها حتي أصابها الغضروف ولجأت للعمل مع الباعة الجائلين في الشارع قائلة: أنا عندي ابن مريض بالسكر وبنت قلبها تعبان مبعرفش أوفر لهم العلاج والتأمين بيصرف علاج الولد كل شهرين. واستكملت حديثها قائلة: إحنا لا تسولنا ولا مدينا إيدينا لحد إحنا بنشتغل وفاتحين بيوت لكن من ساعة ما حطونا في السجن ده وسبنا الشارع المفتوح اللي مكنش له أبواب حالنا وقف, مشيرة إلي أن نقل الباعة لوابور التلج أو الزاوية أو حتي مكان ثالث الأهم ترك الترجمان. مش لاقيين ناكل, مش عارفين نعيش, هنتشرد, بيوتنا هتتخرب, هكذا لخص إبراهيم سيد, أحد أكبر الباعة الموجودين بالترجمان سنا, أحوال باعة سوق الترجمان بعد نقلهم إليه حيث وصفهم باللي رقصوا علي السلم بعد نقلهم من وسط البلد. ويضيف أن كل بائع يعول أسرة كبيرة وأبناء بمراحل تعليمية مختلفة, وتساءل: الحكومة مستنية إيه عشان تحل الأزمة, إحنا قاعدين جعانين وهما بيتكلموا بالملايين عن التطوير, مين مسئول عن حل المشكلة ؟ لتلتقط إحدي السيدات أطراف الحديث وكأنها تعيد سؤاله بشكل آخر قائلة: أنا أرملة وبصرف علي ولادي وابني ساب الجامعة بتاعته بسبب قعدتي دي لأنه مش قادر يشوفني كده ولازم حد يشتغل ويجيب فلوس, لتشارك سيدة أخري في الحديث أيضا دون تعريف نفسها قائلة: إحنا جينا من الشارع لهنا وسمعنا الكلام عشان المشاكل اللي كانوا شايفين إن إحنا بنعملها في الشارع طب مش يساعدونا زي ما ساعدناهم, لتتدخل سيدة أخري في الحديث بسؤال واحد ساد الصمت بعده لو ابنك بيموت هتعملي إيه وأنتي مش قادرة تعملي حاجة هتستني زينا كده إحنا بقالنا3 سنين مستنين. هذا السؤال انتهي به الحديث أو ربما أنهاه فلم يجد بعده أي تطمينات أو عبارات تهدئة أو مواساة, ومعهم كل الحق لأنهم لا ينتظرون مزيدا من الحديث بل يريدون أفعالا علي أرض الواقع, لا يسعون لوعود جديدة بقدر ما ينتظرون تحقيقها, يحلمون بإنهاء أزمة لا تتعلق بمجموعة أفراد يقدرون بالعشرات ولكنهم يستغيثون من أجل أسر وعائلات كبيرة يقدر عددها بالمئات يعلمون جميعا أن أكل العيش مر ومرارته وحدها تكفي بعيدا عن سجن الترجمان الذي استبدل شعار التأديب والتهذيب والإصلاح بالسراب والعقاب والإهمال.