الاخلاص, لقد أصبحت هذه الكلمة كالعملة الصعبة النادرة, فهذه الكلمة يبحث عنها البشر دائما في أحلامهم وكلامهم وتصرفاتهم, حتي في وجوه من حولهم, فنحن دائما في حالة بحث دائم عن شخص يخلص لنا, وقد نتغاضي عن الكثير من سلبياته في سبيل الاستمتاع باخلاصه, فالوفاء النادر أصبح حلما يصعب الوصول اليه. لقد أصبحت لغة المصلحة هي الأساس والغاية, وبمجرد تحقيقها تنتهي العلاقة تماما, أما الاخلاص, فللأسف أصبح يوظف لتحقيق المصالح. فهو لم يعد هدفا, ولكنه أضحي وسيلة لاستقطاب مصالحنا, والسعي اليها, لذا عندما تواتينا الظروف ونلتقي بشخص حباه الله بهذه النعمة, نشعر وكأنه قد حضر من كوكب آخر بعيد كل البعد عن كوكبنا, وكأنها صفة استثنائية في البشر, لذا نجد كثيرا من الأشخاص يقتنون الحيوانات في منازلهم, وخاصة الكلاب, حيث انهم لا يبحثون عن الترفيه والتسلية بقدر بحثهم عن الاخلاص الذي يفتقدونه مع بعضهم بعضا, فإخلاص الحيوانات لا يخضع للحسابات ولا يرضخ للظروف, فهو اخلاص فطري, وللأسف هذا ما نفتقده وبشدة حاليا, ولكن السؤال هو: لماذا ماتت هذه السمة النبيلة داخلنا؟ ولماذا لم يعد للعشرة قيمة؟ فهل ننكر أننا قد نظل لفترات طويلة قد تصل لسنوات لا نسأل عن أشخاص كنا نعدهم أقرب المقربين لنا, ولا نتذكرهم الا حينما نحتاج اليهم, وربما نسمع عن مرضهم أو وفاتهم مصادفة رغم أننا ربما كنا لا نتركهم في الماضي الا عند سويعات النوم فقط, وهنا نتعلل بظروف الحياة ومتغيراتها وشواغلها, فهل هذا اخلاص؟ وعلي غرار هذا المثال, أذكر أنني قرأت قصة تحكي عن أسمي أنواع الوفاء, وللأسف كان هذا الوفاء صادرا عن حيوان ضعيف, وليس عن انسان ذي عقل وخبرة, فقد كان هناك كلب يدعي هاتشيكو لأستاذ جامعي يدعي هيده سابورو أوينو وهو بروفيسور في قسم الزراعة جامعة طوكيو, وقد اعتاد هذا الكلب مرافقة صاحبه الي محطة القطار عند ذهابه الي العمل, وحين كان البروفيسور يعود من عمله كان يجد الكلب في انتظاره عند باب المحطة, وبمرور الأيام أصبح وقوف الكلب انتظارا لصاحبه أمرا معتادا لمسافري محطة شيبويا وزوارها الدائمين, واستمر هذا الحال حتي أتي ذلك اليوم الحزين الذي وقف فيه هاتشيكو منتظرا وصول صاحبه عند باب المحطة كعادته, لكن البروفيسور لم يصل ابدا; فقد توفي بسبب اصابته بجلطة دماغية أثناء العمل في ذلك اليوم من عام1925, لكن كيف يمكن اخبار كلب بوفاة صاحبه؟ وهكذا فان هاتشيكو انتظر طويلا عند المحطة, وحاول الناس صرفه بكل الوسائل, لكن هيهات أن يبرح الكلب من مكانه, واستمر كعادته ينتظر وينتظر, لا ليوم أو أسبوع أو شهر, بل لعشرة أعوام كاملة! وكان الناس يمرون به كل يوم يرقبونه بنظرات حزينة, فقد كان منظره عند باب المحطة يثير في نفوسهم مشاعر الاعجاب والشفقة, وبمرور الأيام تحول هاتشيكو الي أسطورة يابانية حية, خصوصا بعد أن كتبت الصحافة عن قصته, وفي عام1934 قام نحات ياباني بصنع تمثال من البرونز لهاتشيكو, وتم نصب التمثال أمام محطة القطار في احتفال كبير, وهاتشيكو نفسه قد حضر الاحتفال, وبعد ذلك بعام, تم العثور علي هاتشيكو ميتا في أحد شوارع شيبويا, وقد أحيطت جثته بعناية واحترام فائقين, وجري تحنيطها, وهي معروضة اليوم في المتحف الوطني للعلوم في أوينو طوكيو. والسؤال الآن, هل يمكن لانسان أن يخلص لانسان, مثل اخلاص هاتشيكو لصاحبه؟! أعتقد أن الاجابة ستكون بالنفي. والآن, لا يسعني الا أن أقول سوي: تعلموا يا بشر من وفاء الكلاب.