في عام1987 وبعيد إطاحة بن علي للرئيس الأسبق بورقيبة, قام راشد الغنوشي بزيارة إلي مصر, وفي إطارها جري استقباله في مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بالأهرام في حوار معمق شارك فيه بالإضافة إلي خبراء وباحثي المركز عدد من أهم كتاب ومفكري الأهرام. في هذا اللقاء الذي استمر زهاء ثلاث ساعات أظهر الغنوشي قدرا كبيرا من الاعتدال والرصانة والواقعية مستبشرا بالتحولات الجديدة في تونس, ولكن لم تمض شهور طويلة حتي دب الخلاف مع بن علي, وتحول الأمر إلي صدام وعمليات عنف, وكعادة جماعة الإخوان المسلمين في المراوغة والتبرؤ من أي خطأ, ادعت حركة النهضة التي كان اسمها في ذلك الوقت حركة الاتجاه الإسلامي, أن عمليات العنف والتفجيرات التي وقعت كانت مدسوسة عليها.. ودخلت الحركة وكوادرها علي إثرها في محنة طويلة, اقتضت من الغنوشي أن يعيش في المنفي الأوروبي ما يزيد علي عشرين عاما. في مرحلة المنفي تجاوب خطاب الغنوشي مع ظروفه, فبدا أكثر انفتاحا علي متغيرات العصر وأحواله, ووجه العديد من الانتقادات لممارسات الحركة الإسلامية السودانية التي كان يقودها الترابي التي كانت قد تسلمت الحكم عبر انقلاب1989, رغم الصلات الوثيقة التي ربطت الحركتين التونسية والسودانية والتناغم بينهما, ورغم أن الغنوشي نفسه ظل يتحرك لسنوات عدة بجواز سفر دبلوماسي سوداني. غير أن ثورات الربيع العربي وما بدا للوهلة الأولي انه موجة مد إخواني بسند دولي وأمريكي بوجه خاص, مع دعم واسع من بعض الوكلاء والصغار الطامحين مثل قطر, أدار رؤوس الجماعة الأم في مصر ولم تنج منه النهضة التونسية التي سعت للاستئثار والسيطرة, واتجهت للتنسيق مع أصحاب التوجهات السلفية كمغفلين نافعين, انطلاقا من التعالي التقليدي للإخوان علي السلفيين واعتبارهم غير ناضجين وغير مؤهلين لفنون المراوغة والمداورة والكر والفر.. وفي السياق ذاته تحرك الغنوشي متجولا وأعاد الوصل مع الحركة السودانية وتغاضي عن انتقاداته السابقة, وجاء إلي مصر أكثر من مرة عارضا خططه علي إخوان مصر وطالبا منهم التمهل والكياسة.. ولكن اندفاع القطبيين المصريين كان منفلتا, وقد دارت رؤوسهم من التودد الأمريكي, فأطلقوا العنان لأوهامهم. وفور السقوط المروع لإخوان مصر, وعي الغنوشي الدرس الإقليمي وتراجع علي الفور إلي خطاب المشاركة, وتونس أولا.. وبعد أن أدرك أن الواقع المحلي التونسي أيضا يرفض بأغلبية كبيرة خلط الدين بالسياسة, وجعل المطلق في خدمة المتغير النسبي والبراجماتي بما يلحق الضرر بالاثنين معا.. قام الغنوشي بما يقول انه خروج من الإسلام السياسي إلي الديمقراطية الإسلامية. الكثيرون تحدثوا بأن هذا يعبر عن فصل السياسي عن الديني, أو عن( الدعوي) بتعبيرات الإخوان.. ولكن هذا ليس ما طرحه الغنوشي الذي يقول إن هذا ليس فصلا ولكنه تمايز وتخصص ولا يخفي أن هذه التعبيرات المراوغة تثير الريبة, علي غرار مصطلح التوالي السياسي الذي كان قد أطلقه الترابي حين كان يشغل موقع الرجل القوي في السودان, وزعم انه يعبر عن تحول ديمقراطي, فضلا عن أن هذه التحولات يطرحها ويقودها الغنوشي كمنظر وكقائد سياسي, ولم تكن نتاجا لتفاعلات داخلية وحراك بين القواعد التي تبدو مستمعة ومتلقية لهذا الخطاب الجديد.. ولكنها في الواقع العملي ستجد أن هذا الخطاب يجردها من كل ما خبرته وتربت عليه. إن ما سبق لا يعني رفض أي تطور إيجابي قد يحدث هنا أو هناك, ولكن فقط مجرد الانتظار ومراقبة التطبيق, والحكم علي الأمور بشواهد الواقع وليس بالخطابات المنمقة التي قد تكون مرحلية ليس أكثر.