تعلو النبرة دائما في كل ما يتعلق بتاريخ وجغرافيا الأوطان, فالأرض عرض, وفي مثل هذه القضايا المصيرية, خاصة عندما تكون بين أشقاء مثل تيران وصنافير لا بد من التناول الواعي المسئول من المثقف بجانب التخصص العلمي, بحيث يترشد كل شيء ويكون خادما للأوطان لا هادما لها, بلا تخوين أو تشكيك أو حجر علي آراء أو تكميم لأفواه, ودون فهلوة وعشوائية وجهل, فلا أحد يملك التنازل عن شيء ليس ملكه وتزداد المسئوليات حين يكون ذلك ملك الأجيال القادمة, ومصر ليست فارغة من أبنائها القادرين علي إثبات حقوقها والدفاع عن حدودها فلدينا مؤسسات عريقة لها باع طويل في مثل هذا المجال مثل الجمعية التاريخية المصرية للدراسات التاريخية والجمعية الجغرافية المصرية. ولهذا حاورت الأسبوع الثقافي الدكتور خلف عبد العظيم الميري أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر ورئيس قسم التاريخ السابق بكلية البنات جامعة عين شمس والرئيس السابق للإدارة المركزية المشرف العام علي الشعب واللجان بالمجلس الأعلي للثقافة, وعضو مجلس إدارة الجمعية التاريخية المصرية لعدة دورات وعضو اتحاد المؤرخين العرب والباحث المساعد للدكتور يونان لبيب رزق في تأسيس مركز تاريخ الأهرام وعايشه عن قرب في أثناء البحث عن وثائق قضايا طابا. بداية كيف تحدد موقفك في قضية تيران وصنافير, وهل هو تبع للمشاعر أم تبع للأدلة العلمية؟ - بداية لابد من التسليم بحقيقة أن المشاعر بطبيعة الحال تكون جياشة في مثل هذه الامور التي ترتبط بتراب الوطن, وأنا كمؤرخ مهما كنت محايدا لايمكنني انتزاعي من ذاتيتي ولو بدرجة نسبية, ولكني أتحكم في عواطفي قدر المستطاع, وأعمل عقلي وعلمي, لأن المؤرخ, قاض, أو يجب أن يكون كذلك, وبالتالي يتحدد موقفي تبعا للأدلة العلمية والوثائق التاريخية, وهذه تكون حجيتها أقوي وتعطي الحق بأدلته, ولذا لابد من التيقن بالأدلة التي لاتقبل الشك وتحسم جدلية مصريتهما أو سعودتهما. وقمة الشجاعة أن يعترف الانسان أنه كان علي خطأ.. إذا أيقن حقائق ثبوتية لاتحتمل الشك, كانت خافية عليه,( وفوق كل ذي علم عليم) وهذا الاثبات مطلوب بشفافية كاملة, خاصة أننا في مصر والسعودية وعالمنا العربي أشقاء. لماذا نجد أن هذه القضية بالغة الخطورة يتم تناولها بالفهلوة مع أنها قضية علمية وثائقية بامتياز؟ - للأسف وراء ذلك معطيات كثيرة لا مجال للخوض فيها الآن لأنها ليست يقينية الثبوتية عندي ولكنها رؤي تفسيرية قد تكون مرتبطة بمتغيرات اقليمية أو دولية, إلا أن المؤكد وهذا رأي اتمسك به أنه لا تاريخ بلا وثائق وإن نشر الوثائق والخرائط التاريخية هو المصداقية.. لقد عايشت عن قرب استاذي المؤرخ الكبير الراحل د. يونان لبيب رزق وكيفية البحث عن وثائق طابا داخل مصر وخارجها في قضية واضحة المعالم استغرقت بضع سنين, وليست كما هو الحال أمورا ملتبسة تستغرق جلساتها بضعة أشهر. نعم نحن في مصر والسعودية أشقاء ونعتز بعضنا بعضا.. وعلي مر التاريخ تأكد وقوفنا إلي جانب بعضنا سواء مصر بجانب الحجاز حتي قيام الدولة السعودية في عهد الملك عبدالعزيز آل سعود, والمملكة العربية السعودية بجانب مصر منذ طفرة البترول. ولكن قضية بمثل هذا القدر من الأهمية في مسألة التبعية أو السيادة فهي ملك الأجيال القادمة ويجب أن تأخذ وقتها الكافي.. وليست مصر مثل هذه العجلة التي أوجدت الالتباس لدي الرأي العام. وأن مثل هذه الأمور الخلافية يلزمها قبل اتخاذ اي قرار تجميع وثائقها ومختلف اثباتاتها في الجانبين رسميا وشعبيا من مختلف الدول والأماكن والمصادر بالقدر الكافي الذي يوفر الطمأنينة والشفافية الكاملة حتي لا تمضي التفسيرات أحادية الجانب أو يتناولها كل من هب ودب من غير المتخصصين دون اثبات أو بعض المتخصصين باثباتات مجتزأة أو أحادية النظرة. وعموما فإنه في مثل هذه القضايا ليس مقبولا التعصب الأعمي للأهواء الشخصية أو الآراء المرسلة وإنما يكون الاحتكام فيها إلي أدلة قاطعة حتي لو كانت هذه الادلة صادمة, المهم ان تكون هذه الاثباتات حقيقية لاتقبل جدليات التأويلات واختلاف التفسيرات, وقمة الشجاعة أن يعترف الانسان بانه كان علي خطأ إذ أيقن حقائق وثائقية لاتحتمل الشك. كلنا يتمني لو أن أساتذة التاريخ والجغرافيا والديموغرافيا والجيولوجيا والطبوغرافية وكل العلوم ذات الصلة مثل القوانين الدولية والبحرية والاتفاقيات والمعاهدات والمنظمات الدولية والإقليمية والنزاعات الحدودية... إلخ يستطيعون إثبات أن تيران وصنافير مصريتان لكن السؤال هل الأمور تؤخذ بالتمني أو بعلو الصوت؟ - إطلاقا, فمثل هذه الأمور لاتؤخذ بالتمني ولا( بالديماجوجية) و(الغوغائية) ولكن بالدراسات العلمية الرصينة التي تعتمد علي قواعد علمية صحيحة ومعتبرة ووثائق ومستندات وأدلة وبراهين, وتوافق التاريخ والجغرافيا والاستراتيجية والسياسة, خاصة أن هذه قضية عامة, فوق الاشخاص ملك الاجيال والأوطان, وقد أدركنا في قضية طابا أن المرتكزات أو المقدمات الصحيحة( الوثائق التاريخية والخرائط الجغرافية) تؤدي إلي النتائج الإيجابية, وهي الأساس الذي تبني عليه رؤي القانونيين وتقارير الخبراء وقرارات السياسيين, وبالتالي ليس مطلوبا الإنفراد بالرأي أو القرار في مثل هذه الأمور. إذن السؤال الذي يطرح نفسه, أين علماؤنا المتخصصون, مما يحدث؟ وهل ماتوا, أم أننا ليس لدينا علماء أصلا ؟أين الجمعية التاريخية المصرية, وشقيقتها الجمعية الجغرافية المصرية, وأين هيئتا المساحة المدنية والعسكرية, بل أين كليات و مراكز الترجمة المعتمدة التي تمنع الترجمات المغرضة أو الخاطئة لمستندات ووثائق يقال إنها ذات صلة بالموضوع لأن قراءة الخرائط والمستندات علم قائم بذاته بل إنه يختلف عليه من قبل المتخصصين أنفسهم فما بالك بالمواطنين العاديين؟ - أقرر لك والقراء الأعزاء, أنني باعتباري عضو مجلس ادارة الجمعية المصرية للدراسات التاريخية منذ عودتي من الخارج2008 لم يتم تطلب منا أي جهة في مصر أي معلومات أو رأي حول هذا الموضوع, ومصر بها كفاءات علمية مشهود لها عالميا في سائر التخصصات, ورأيتم كيف استطعنا أن نستعيد طابا ومازال لي تساؤل وهو لماذا لم تنشر اللجنة الموقرة المراسلات والوثائق المتبادلة ككل في عهدي الملكين عبدالعزيز آل سعود وفاروق مصر؟ وهذه الأسس التاريخية التي ينبغي الاستناذ لها أكثر من الرؤي في العهود اللاحقة. بطبيعة الحال أنا لا أشكك في وطنية أحد, ولكن قد يكون تحليل تتابع وتدرج الوثائق مختلفا في تفسيراته التاريخية والقانونية عما ذهبت اليه اللجنة.. أو أن يكون قد تم اجتزاء لمعلومة أو لجزئية في الوثيقة أو أن التأويل في الألفاظ كان أحادي الجانب, وأؤكد مرة أخري أنه قد توجد تفسيرات مختلفة لخريطة أو وثيقة واحدة بين المتخصصين( وفوق كل ذي علم عليم) ولابد من الاتفاق علي لجان من المتخصصين تقطع الشك باليقين بملكية الجزيرتين أو احداهما لأي من الطرفين ولو استلزم ا لأمر اللجوء لطرف ثالث فتلك قواعد حاكمة اتفق عليها العالم أجمع. كيف تفسر ثقافيا هذه الهجمة الشرسة وكيل الاتهامات الجزافية بكل أنواعها لمؤسسات الدولة برغم أن هناك واقعتين شبيهتين بذلك ولم يحدث هذا النقد المغالي فيه بهذا الشكل؟ - مما لا شك فيه أن الظروف السياسية التي تمر بها البلاد منذ2011 وحتي الآن ووجود أطراف لها مصلحة أكيدة في إثارة الغبار والاضطراب وتأثر الشعب بهذه الأحداث خاصة مع التأثيرات الاقتصادية التي نعاني منها لكن يبدو لي الأمر في غاية العجلة والاستعجال, فضلا عن عنصر المفاجأة المباغتة بقسوة, كما لو كان مريضا وفاجأك الطبيب ببتر أصبع لم تكن تشكو منه المرض. وبدت المسألة كما لو كانت هناك مقولة شاعت عن عدم مصرية الجزيرتين, وصدقها الجميع.. عكس ماتقوله وتثبته الوثائق منذ ما قبل قيام الدولة السعودية, وبعد قيامها أيضا مما قام بنشره بعض الباحثين من خارج اللجنة, وثمة تفسيرات لما قيل إنه وثائق متبادلة ولازلت المسألة هلامية نتيجة عدم نشرها وهذه لم تحل المشكلة وإنما زادت الالتباس لدي الرأي العام وكثير من المتخصصين علي السواء., وهذا لايمنع ايضا من التسليم بسعودتهما إذا أثبتت الخرائط والوثائق والنصوص التاريخية الصريحة ملكية الجزيرتين أو احداهما, نصوصا واضحة غير ملتبسة, وشريطة أن يكون ذلك في اطار من الشفافية القاطعة من كلا الجانبين,م وبالتالي تكون الأحكام يقينية لاتفسد للود قضية بين الأشقاء,. هل تعتبر أقوال سفراء أو مسئولين أو حتي أعضاء في منظمات دولية في فترات معينة وثائق ثابتة يمكن الارتكان إليها؟ - تؤخذ بهذه الأقوال إذا دعمتها الوثائق فلا مجال للأقوال المرسلة, بل ان محاضر الجلسات التي تسجل الآراء المختلفة بين أعضاء لجان في مثل هذه الامور, لاتعتبر دليلا اذا تم الاتفاق عليه من كل الاطراف بالاساليب العلمية والقانونية المعترف بها دوليا وليس هناك مجال للفهلوة أو حتي استخدام القوة في اقتطاع شيء ما أو الاستيلاء علي ما ليس حقا, وإن كانت للأسف حتي يومنا بقية باقية هذا من مواريث الاستعمار, ولنا أن نري احتفاظ اسرائيل بأراض محتلة في فلسطين وغيرها. هل الحدود تتغير؟ -بالطبع تتغير الحدود وبالتالي الخرائط و بالأخص خرائط الإمبراطوريات, وأن الاحتلال كالإيجارة والتفويض والوكالة وحق الانتفاع, لايعطي للمحتل صكوك ملكية, وأن الآراء أو الأقوال المرسلة مما يملكون هذا الحق لاتعتبر حجج ملكية أو أسانيد يعتد بها, حتي يقرها الطرف الآخر, أو يصدر بها حكم ملزم من طرف ثالث يخضع له الطرفان جبرا أو طوعا كالمحاكم والتحكيم. ومثل هذه الأمور لها مختصوها من القانونيين لكن مع ملاحظة انهم جميعا يبنون أحكامهم علي مايتم تقديمه لهم من وثائق ومستندات صحيحة وقاطعة. هناك سؤال من نوع آخر يستشهد به المعارضون وكأن الدولة أقرت بملكية الجزيرتين دون انتظار لموافقة مجلس النواب من عدمها وهو أن لدينا جنودا استشهدوا علي هاتين الجزيرتين؟ - لا يعني أننا خضنا حربا هنا وهناك وسقط لنا شهداء, أن الأرض التي خضنا عليها الحرب بالضرورة ملكنا ؟ هذا حق قومه لقد خضنا حروبا وسقط لنا شهداء علي مدي التاريخ قديما وحديثا في أراض ليست أرضنا, في فلسطين وبلاد الشام واليمن وغيرها. فهل يعني ذلك إن تلك الأراضي أراضينا, لو أخذنا هذا المعيار فمعني ذلك ان مقابر البريطانيين في العلمين تثبت حق بريطانيا في هذه المنطقة. هل هناك من إضافة؟ - أدعو كل الشعب المصري خاصة المتاجرين بالوطن والدين والذين يوظفون كل شيء لحساب مصالحهم الشخصية والإعلام, أن يرتقوا ولا يفرطوا لكن لا يتعاملون بعشوائية وجهل وغوغائية تثير البلبلة والفوضي نحن أكثر احتياجا للاستقرار في مصرنا الحبيبة ونحن أيضا علي استعداد بأي جزء من تراب الوطن وأرجو ألا يتعصب مسئول ما لرأيه أو أن يتخذ قرارات فردية أو أن يكون ذا نظرة أحادية لاترتكز علي رؤي المتخصصين, أمور الأوطان مصيرية, وحساسة, ومن لايحترم التاريخ لن يكرمه التاريخ, وأعتقد أن الأمر مازال, قيد البحث والدراسة. وللجهات المعنية؟ - نحن لا نشكك في وطنيتكم مطلقا.. ولكنكم فاجأتمونا بمسألة ليست هينة.. أرجوكم مزيدا من التأني وانشروا الوثائق كاملة من الجانبين خاصة في عهد الملكين عبدالعزيز آل سعود وفاروق, فهي الأسس التاريخية أكثر من خطابات العهود اللاحقة ممن لايملكون التنازلات.. أو وسعوا دائرة الإستعانة بالمتخصصين.. وامنحونا الفرصة لتقديم مزيد من الوثائق والخرائط والقراءة التحليلية العلمية للدلالات...وكلما تراكمت وتعمقت الوثائق والخرائط تاريخيا أعطت المصداقية أكثر أنشروا الوثائق كاملة.. نحن أشقاء لا نريد خلافات.. وهذه أوطان ليست ملكنا فقط ولكنها ملك الأجيال القادمة.