عشية انطلاق مفاوضات الأزمة السورية في جنيف, جاء قرار الرئيس الروسي بوتين بعودة الجزء الأكبر من القوات الروسية العاملة في سوريا مفاجئا, بل ويمكن القول انه كان أيضا صادما لكل الأطراف الإقليمية والدولية المنخرطة في الأزمة السورية, الأمر الذي ظهر جليا في تفاوت وارتباك ردود الأفعال التي حاولت فهم أبعاد هذا القرار ودوافعه وأيضا توقيته. وأهمية الفهم تنبع في الحقيقة من ارتباطها بشكل أساسي بانعكاس القرار الروسي علي مسارات واتجاهات الأزمة السورية, وهل هذا ناتج عن اتفاق مسبق مع الإدارة الأمريكية بعد ان قام الطرفان الروسي والأمريكي في وقت سابق بترتيب الهدنة المعمول بها حاليا, أم انه تخلي عن الأسد وتركه لمصيره لخلافات قوية في الكواليس.. أم انها مجرد رسالة للنظام السوري بضرورة مراجعة وتليين مواقفه, لكي يتيح فرصا أكبر للوصول ليس الي اتفاق, ولكن علي الأقل لتفاهمات تفتح الطريق أمام التسوية السياسية التي ظلت الي ما قبل صدور القرار الروسي تبدو بعيدة المنال.. في الوقت نفسه ذهب فريق ثالث إلي ان الأزمة الاقتصادية الروسية الناتجة عن النفط لا تسمح لروسيا بتدخلات طويلة الأمد قد تشكل لها استنزافا مقصودا وتوريطا متعمدا من الغرب عبر وكلائه الإقليميين علي غرار ما جري في أفغانستان من قبل للاتحاد السوفيتي. غير أن متابعي خطوات وأداء الرئيس فلاديمير بوتين لا يجدون في قرار سحب القوات خروجا علي المألوف. بل بالعكس بدا انه في توقيت محسوب بدقة, فالعملية العسكرية الروسية قد حققت الجزء الأكبر من أهدافها, إذ أنها منعت سقوط العاصمة دمشق في أيدي الجماعات الإرهابية. كما ساعد سلاح الجو الروسي في تحرير400 مدينة وقرية سورية واستعادة السيطرة علي أكثر من10 آلاف كيلومتر مربع من أراضي البلاد, مع عرقلة تجارة الإرهابيين بالنفط أو القضاء عليها بشكل كامل في بعض المناطق, ووقف أو تدمير الإمدادات الأساسية لفصائل الإرهاب ونقل الأسلحة إليهم. كما قتلت القوات الروسية في سوريا أكثر من2000 مسلح, بمن فيهم17 قائدا للمجموعات الإرهابية, انتقلوا إلي البلاد من أراضي روسيا. وتجدر الإشارة هنا إلي أن سحب القوات لم يكن شاملا, بل تم الاحتفاظ بالقاعدتين الروسيتين مع إبقاء مركز مكلف بضمان تحليق الطيران في سوريا, وذلك بهدف مراقبة تنفيذ شروط وقف الأعمال القتالية. وفي نهاية المطاف يجب ألا ننسي ان روسيا لم تتدخل لحماية نظام الأسد او الدفاع عن مصالح احد الأطراف, بل جري الإعلان من البداية بوضوح ان هدف التدخل هو الدفاع عن المصالح الروسية, وان هذه العملية العسكرية محددة الأهداف, وليست مفتوحة الي ما لانهاية. إذ أن الهدف هو تعديل التوازن الميداني للدفع بتسوية لا تسمح بسقوط سوريا في أيدي الفصائل الإرهابية التي سوف تنقل المعركة فيما بعد الي داخل الأراضي الروسية. ومن الواضح ان توقيت القرار عشية المفاوضات يعكس رغبة بوتين في الخروج, مع الاحتفاظ بصورة ايجابية لروسيا بعد ان وجهت رسالة قوية انه لا يمكن تجاهل مصالحها وأنه لا يمكن للولايات المتحدة وحلفائها الانفراد بإعادة تشكيل هذه المنطقة ذات الحساسية الخاصة للدب الروسي. المحصلة الأخيرة ان بوتين يكرس وضعه فاعلا مؤثرا دون أن يترك مواقعه مكشوفة للخصم في أوضاع جيوسياسية مثقلة بشتي الاحتمالات. وان الأزمة السورية قد تكون اقرب الآن الي التسوية منها قبل قرار الانسحاب الروسي.