فقدت الود الذي اعتدته مع سائقي تاكسي قاهرة ذلك الزمن الجميل, لم اعد أجد تلك الألفة والمودة التي كانت تتخلق معهم اثناء مشوارنا, مهما كان قصيرا. فقدته مرتين: المرة الأولي بعد انفتاح السبعينيات, والجشع الذي صاحبه, والثانية هذه الأيام بعدما تعمد الكثير منهم اخطاري بمجرد أن ينطلق التاكسي, أن العداد عاطل! وغالبا ما تفشل محاولتي في نهاية المشوار بالتسوية المرجوة للأجرة, فينتهي الأمر بتكشيرة, وأحيانا بشتيمة. كنت عند ناصية شارع البطل أحمد عبد العزيز بشارع جامعة الدول العربية اتربص بتاكسي يأخذني إلي وسط البلد, عندما وقف امامي ميكروباص مشيرا سائقه بكفه الأيمن الذي رفع سبابته إلي أعلي يلويها في حركة دائرية قائلا: إسعاف.. إسعاف. لقد سبق وانتبهت أن الكثيرين من سائقي الميكرو باصات يقومون بحركة الكف هذه, ولكنني لم أعرف, حينها, ماذا تعني؟ ولا أين وجهة هذا الإسعاف؟. ولأنني لم أكن مستعجلا ركبت من دون تردد, فاليوم سبت وحركة المرور رائقة, وإنا غالبا ما أذهب إلي وسط البلد يوم السبت لابتياع ما أحتاجه من هناك. انطلقت الحافلة عبر كوبري15 مايو, وقفت عند سلم أبو الفداء, ثم عند ناصية سلم أبو العلاء, ثم واصلت مسيرتها عبر شارع بولاق, لتقف عند سور القنصلية الإيطالية فنزلت. عبرت الكوبري نحو شارع26 يوليو, أمامي دار القضاء العالي, وعلي يساري صيدلية الإسعاف. عندها عرفت من أين جاء اسم المحطة. وبغتة انتبهت أن الإشارة التي يقوم بها السائق وهو يعلن: إسعاف.. إسعاف تشير إلي ذلك الضوء المتقطع, الذي يدور منبها, مصاحبا لزمارة سيارة الإسعاف! منذ ذلك اليوم صار الميكروباص وسيلة تنقلاتي في القاهرة, ومنذ ذلك اليوم صرت أعرف الإشارات التي ترمز إلي مختلف المناطق: تلك المحددة للجيزة, والأخري للتجمع الأول, والثالثة لرابعة. صرت استمتع باحاديث الركاب وقفشاتهم, ومصطلحات الوقوف: معاك السلم يا اسطي وطلب السائق لأجرته: اللي ما بعثش يبعث! وتظل سخريتهم من معاناتهم تعكس قوة الإنسان المصري وصلابته وعزة نفسه. قلت كثيرا مصاريف تنقلاتي, وتخلصت نهائيا من مشاحنات وازدراء سائقي تاكسي القاهرة المعطلة عداداتها. قف المرء في شوارع مرور الميكروباصات, ينظر يسارا, يترقب وصولها, غالبا ما تهدئ سرعتها. قد يعلن السائق وجهته, ولكنه يواصل سيره إن كان كامل العدد, أو يكون موعد( كباية الشاي) قد حان وقتها. قد يقرأ المترقب قفشة, أو حكمة مكتوبة بخط جميل علي مقدمة العربة, وإن كان ما يكتب علي خلفيتها أكثر مما يكتب علي مقدمتها. في الصباح يكون القرآن الكريم هو السائد. من الظهر حتي المغرب تلعلع الأغاني الشعبية المعدة علي النغم أكثر من الكلمة. بعد المغرب تسود أم كلثوم. ما يكتب علي هذه الحافلات مثير, مضحك, وعجيب, بمقدور المهتم أن يؤسس لدراسة اجتماعية متخذا مما يكتب عناوين لبحثه وإن كانت السخرية هي السائدة: حتي هدف حياتي تسلل! أو الراجل من غير ست زي النايل سات من غير نت! وقد تكون السخرية أحيانا مفارقة: شامبو يشيل القشرة وصاحب يخون العشرة! وقد تكون تقريرا عن واقع حال: حد معاه حاجه يا شباب قبل الكمين؟. أو قد يشكو من ظلم الناس: لما بقيت عصفور كلوني, ولما بقيت أسد صاحبوني وهو لا يعلم أن عصفورا واحدا يلتهم مائة حبة لب في25 دقيقة! ويخاف علي عربته: ربنا يحميكي من أيد الميكانيكي. ولكن أغرب ما قرأت علي ميكروباص هو الآية القرآنية التالية: وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون صدق الله العظيم. إنه بالفعل انتقاء عجيب, فالسائق يستنجد بالقرآن ليبعد عنه أعين رجال المرور, المسئولين عن حماية الطريق والناس; فهو يعلن وجهته بالنداء وبالمنبه والإشارات, ولكنه لا يريد لأمناء الشرطة أن يروه! وهكذا كما يبدو, يريد أنه ينوي خرق القانون ويريد الله أن يساعده في ذلك! إنه أخطر من الثاني الذي كتب علي حافلته: يا حنان يا منان أكفينا شر اللجان! فهو علي الأقل يريد من الله أن يحميه من اشرار اللجان وليس كل اللجان, بينما الذي استنجد بالآية يريد ألا يراه أحد علي الإطلاق, ولو استجاب له الله- حرفيا- لصار يتنقل في القاهرة من دون راكب واحد! الميكروباص مشروع خدمي, وسيلة أكل عيش, ركوبه هو بالتحديد اختلاطك بفئات الشعب المصري العظيم كافة! فهو عالم متحرك من سيدات وسادة كادحين, بسطاء, عشريين قد تجد بينهم المهندس, والشاعر, والكاتب والطبيب. تربطني علاقات صداقة, تواصلت لسنوات طويلة مع معظم العاملين بمستشفي السلام. ذات يوم ركبت من أمام جامع مصطفي محمود. لم أنتبه إلي الشاب الذي جلست بجانبه. وفيما كنت ابحث, في جيبي, عن جنيه وربع وهي قيمة الأجرة, سمعت من يقول بخفوت: دا أنت طلعت زينا! لا مليونير ولا حاجه! التفت كان صديقي إسحاق أحد ممرضي قسم الطوارئ, صافحته ضاحكا واشرت الي ركاب الحافلة وقلت له: المليونيرات هم هؤلاء.. مليونيرات القناعة والصبر وخفة الدم.. والدفء. واصل الميكروباص سيره, فيما استمر السائق يعلن للناس: اسعاف.. اسعاف.