السطور التالية لا تعني بأي حال من الأحوال التشكيك في مصداقية التصريحات الرسمية, بل ربما تؤدي إلي إثبات مصداقيتها وصحتها. فقد جري العرف أن يسارع البعض إلي وصف مقترف جريمة ما بأنه مختل عقليا أولا لحين اتضاح الموقف. والحقيقة أن مثل هذا الإسراع بلصق صفة الاختلال العقلي إلي كل كبيرة وصغيرة لحين اتضاح الموقف يفقد الاختلال العقلي أهميته وقيمته. كما أنه يسحب البساط من تحت أقدام الاختلال العقلي, ويفقد ثقة الناس في كل مختل عقليا. والحقيقة أنني شأن ملايين من المصريين لم نعد نصدق حكاية الاختلال العقلي هذه حتي في الأحوال التي يكون فيها المتهم مختلا عقليا. ولكني أفقت فجأة علي الحقيقة التي قد يراها البعض مرة ويراها البعض الآخر مفرحة لأنها مريحة. فنظرة سريعة إلي أحوال الشارع المصري تؤكد مما لا يدع مجالا للشك أننا جميعا مختلون عقليا. آه والله! صحيح أن درجات إصابتنا مختلفة, لكننا نتفق في الاختلال. أنظر إلي سائق الميكروباص الذي يترنح بسيارته يمينا ويسارا دون أن تهتز له شعرة! وانظر إلي الشاب الروش سائق السيارة الفارهة الذي غير ملامحها وعالمها وينطلق بها بأقصي سرعة معتمدا علي البركة وحدها لتقيه وتقي من حوله شر الحوادث القاتلة! وانظر كذلك إلي الشابة المنتقبة التي تصعد عربة المترو وتتخيل أن الله سبحانه وتعالي قد سخرها لهداية النساء والفتيات, وأن الدرس الديني العجيب الغريب الذي تلقيه في داخل العربة سيهدي الجموع إلي طريق الحق ويحجز لها مكانا في الجنة! وانظر إلي الفاتورة الآتية من السوبرماركت الذي تتعامل معه وقد ارتفع سعر علبة اللبن سعة لتر واحد إلي سبعة جنيهات, وكيلو البسطرمة إلي68 جنيها, والسكر إلي سبعة جنيهات! واقرأ تصريحات الوزراء المؤكدة أن80 في المائة من المصريين يحصلون علي السكر علي بطاقة التموين بسعر الكيلو الواحد جنيه وربع, وأن عشرين في المائة يحصلون علي الكيلو بخمسة جنيهات. وانظر إلي مشهد أكوام القمامة المتلتلة في كل شوارع مصر دون استثناء, بما في ذلك شوراع المناطق الراقية, أو بالأحري التي كانت راقية. وانظر إلي الأبراج الخرسانية بالغة القبح التي حلت محل فيلات مصر الجديدة التي تم هدم العشرات وربما المئات منها في خلال أيام قليلة والإسراع ببناء الأبراج القبيحة قبل أن يغير المسئولون رأيهم ويصدرون أمرا بوقف حكاية البناء هذه. وانظر إلي سعر الشقة في مدينة نصر والتي كسر بعضها حاجز الملايين للواحدة. وانظر إلي أبطال مصر المسنين الذي يستجدون العلاج والرعاية الطبية اللازمة علي صفحات الجرائد وعبر أثير ال'توك شو'. وانظر أخيراي المسئولين وهم جالسون أذنا من طين والثانية من عجين. والأهم من ذلك أن تنظر إلي هذا المشهد الموزاييكي غير المتجانس والخالي من التناغم والعامر بالقبح واللامعقوليزم, ورغم ذلك يتكرر يوميا وعلي مدار الساعة دون أن يستوقف أحدا أو يتضرر منه البعض. أليس هذا هو قمة الاختلال؟ ورغم هذا الكم المذهل من الاختلال الذي نعيشه, وعلي ما يبدو نستمتع به, هناك من هو مازال قادرا علي التفكير والابتكار. القارئ' عم محمد' يعمل سائق تاكسي, لكنه يستثمر وقته أثناء عمله في محاولة إيجاد أفكار قد تساعد علي حل المشكلات. يقول:' لدينا القدرة علي إعادة الوجه الحضاري لمنطقة وسط القاهرة. لماذا لا نمنع سير كل أنواع المركبات في شوراع وسط القاهرة باستنثاء سيارات الأجرة فقط, علي أن يتم توسيع عرض الأرصفة لتستوعب المقاهي ومطاعم الوجبات السريعة بأنواعها ويتم تأجيرها للشباب؟ وهم بالطبع سيوظفون شبابا لديهم للعمل في مجال المطبخ والتقديم؟ ويمكن كذلك تخصيص بعض الأماكن كمراسم للفنانين مثل ما نراه في شوارع أوروبا؟ وفي هذه الحالة يقترح أن يتم تعميم أزياء نظيفة يترديها العاملون في هذه المحلات المؤجرة لنحتفظ بأقصي درجة ممكنة من الشكل الحضاري المرجو لمصر؟' انتهي اقتراح' عم محمد' القابل للتحقيق, وانتهي معه الشك بأننا قد دخلنا مرحلة الاختلال العقلي الكامل, فما زال بيننا من هم قادرون علي التفكير السليم والبناء. [email protected]