بشكل عام هناك حالة من الرضا عن مستوي الاختيارات لهذا العام نسبة كبيرة من الأفلام الجيدة, وحتي الأفلام التي لم تأت علي المستوي المطلوب هي من إخراج صناع سينما كبار, يمكن تفهم سبب وجودهم في برلين فعندما يصنع الألماني فيرنر هيرتزوج فيلما من بطولة نيكول كيدمان وجيمس فرانكو, يصبح وجوده في المسابقة مهما حتي لو أثار مستواه الجدل. الفيلم المقصود هو ملكة الصحراء, الذي يروي حكاية امرأة بريطانية تدعي جيرترود بيل, كانت مؤرخة وروائية وعضوة في المخابرات البريطانية, ويقال إنها قد لعبت دورا مهما في التقسيم الجغرافي للجزيرة العربية خلال عشرينيات القرن الماضي. الفيلم رغم قيمة مخرجه وجاذبية أبطاله جاء مليئا بالتصورات المسبقة, والنزعة الاستشراقية المملة, حيث الشرق مليء بالأساطير والحكايات الغريبة, تنشب فيه حكاية حب بين البطلة وسكرتير السفارة( فرانكو الذي يصغر كيدمان في الحقيقة بأحد عشر عاما كان يصعب مداراتها ع-لي الشاشة), علي أشعار عمر الخيام وأصوات الآذان, باختصار صورة صارت حتي أكثر الأفلام الأمريكية سطحية لا تقدمها عن الشرق, بالإضافة لتفكك عام في الفيلم جعله أحد أكثر الأسوأ تقييما من قبل الجمهور والنقاد. مخرج كبير آخر قوبل عمله باستقبال فاتر هو الأمريكي تيرينس ماليك الذي جاء الرأي العام محبطا من فيلمه الجديد ملك الكؤوس. شخصيا لم أجده سيئا علي الإطلاق, هو فيلم ينتمي لعالم ماليك قلبا وقالبا, يمكن أن يشكل اكتمال ثلاثية بدأها في شجرة الحياة. كاميرا صاخبة لا تتوقف وعدد هائل من اللقطات( متوسط طول اللقطة الواحدة في الفيلم لا يتجاوز ست ثوان كما حسبها الناقد الكبير محمد رضا). لكن يبدو أن التوقعات كانت تفوق النتيجة. وكان أطرف تعليق علي الأمر ما كتبه مارك آدامز في مجلة سكرين لعل سانتا مونيكا ليست المكان الصحيح للبحث عن معني, في إشارة للشاطئ الأمريكي الفاخر الذي تدور فيه معظم حكاية بحث الممثل الهوليودي الشهير( يلعبه النجم كرستيان بيل) عن معني حقيقي لحياة النجومية التي يعيشها. أضف إلي هيرتزوج وماليك اسم الإسبانية إيزابيل كوشيت مخرجة فيلم الافتتاح لا أحد يريد الليل, والذي يبدو هو الآخر بعيدا عن أي منافسة في ظل مستواه المتوسط وعدم بروز أي عنصر من عناصره بما في ذلك بطلته جوليت بينوش. الأفضل من تشيلي دائما الغريب أن يكون أفضل فيلمين عرضا في المسابقة حتي الآن من دولة واحدة لا تمتلك صناعة سينمائية كبيرة مثل تشيلي, ربما لأن الصدفة جعلت أهم مخرجين منها يصنعان فيلميهما الجدد بالتزامن. الأفضل علي الإطلاق هو النادي لبابلو لارين, الذي ترشح للأوسكار قبل عامين عن لا الذي أنهي فيه ثلاثيته عن التاريخ الوطني التشيلي, ليقدم في الفيلم الجديد حكاية أذكي أوسع أفقا عن تشوه رجال الدين. الفيلم يدور في مكان غريب, هو منفي تابع للكنيسة, يقيم جبريا القساوسة الذين تم شلحهم لأسباب منها التحرش بالأطفال وإدمان الخمور والمقامرة, وفي هذا المنزل ينتحر نزيل جديد, ليبدأ تحقيق يكشف عن الفساد الموجود سواء داخل نفوس سكان المنزل أو فيما يقومون به من تصرفات. الفيلم نموذج للفيلم المتكامل, سيناريو ممتع يجمع بين الثقل والإمتاع وخفة الظل, مستوي تمثيل رائع من جميع الممثلين, وإدارة ممتازة لجميع العناصر من المخرج الذي ينافس بشدة علي جوائز المهرجان, مثله مثل مواطنه باتريسيو جوزمان, الذي قدم في فيلمه التسجيلي زر اللؤلؤة عملا إنجازه أكبر من حصره في الموضوع الذي يطرحه. القضية مقارنة بين إبادة المستعمرين لسكان البلاد الأصليين وضحايا نظام بينوشيه الديكتاتوري, لا جديد في الأمر, لكن الجديد هو أن تكون بطولة الفيلم للطبيعة وليس للأشخاص, وتحديدا للمياه التي يتعامل معها المخرج بقداسة بصرية, طارحا نظريته بأن للمياه ذاكرة وصوتا, ويمكنها أن تحمل التاريخ ثم تصرخ به لتصارح العالم بحقيقة ما حدث. جودة نسائية من ألمانيا وبريطانيا علي صعيد التمثيل النسائي يبرز دوريا البطولة في كل من الفيلم الألماني فيكتوريا للمخرج سباستيان شيبر والبريطاني54 عاما لأندرو هاييه, علي الرغم من التناقض الكامل بين العملين. فالفيلم الألماني حداثي علي كل المستويات, مخرجه الشاب وبطلته الإسبانية الصغيرة لايا كوستا يخوضان تحديا هائلا: تصوير فيلم مدته ساعتان وربع الساعة في لقطة واحدة, في حكاية مستمرة عبر الزمن تجوب فيها فيكتوريا مع الشباب الأربعة التي تعرفت عليهم في عالم الليل في مدينة برلين, بين النوادي الليلية وجراجات السيارات التي تحاك فيها الجرائم, حكاية مثيرة وموترة للأعصاب, تمثل بعيدا عن مستوي صعوبتها إنتاجيا اختبارا يصعب تكراره لقدرة الممثلين علي التماسك الجسدي والنفسي, لأن خطأ واحدا يمكن أن يفسد لقطة تساوي فيلما بأكمله. أما الفيلم البريطاني فهو عمل كلاسيكي تماما, مصنوع بميزانية محدودة معتمدا علي سيناريو محكم ومستوي تمثيل ممتاز, علي رأسه النجمة المخضرمة تشارلوت رامبلنج التي تجسد دور امرأة تتعرض لمحنة أثناء استعدادها لعيد زواجها الخامس والأربعين, عندما تصل رسالة لزوجها تفتح ملفا من الماضي, وتجعل كل منهم يفكر إذا ما كان قد اتخذ القرار الصحيح بالزواج من الآخر والاستمرار معه كل هذه السنوات. الفيلم يطرح تساؤلا مخيفا عن تأثير الخيارات في مسار حياتنا, كان أداء رامبلنج أبرز أدواته طرحه بهذه القوة. الأفلام الخمسة الأخري دارت في منطقة رمادية, تمتلك بعض نقاط القوة لكنها بعيدا عن اكتمال الجودة, وهي أفلام مذكرات مديرة منزل للفرنسي بينوا جاكو, كما لو كنا نحلم للألماني أندريس دريسن, جسد للبولندية مالجورزاتا زوموفسكا, بركان إكزكانول للجواتيمالي خايرو بوستامانتي, وتاكسي للإيراني جعفر بناهي, وإن كان الفيلمان الأخيران قوبلا بإعجاب كبير من النقاد الغربيين, ويبدو أن نزعتهما السياسية, السياحية قد تكون سببا في تنافسهما بقوة, وإن كان أكثر شيء خاطئ يمكن القيام به هو توهم إمكانية توقع مسار جوائز مهرجان مثل برينالي.