لاتزال مصر لاتري وجهها سوي في مرايا جيشها والمثقفين, وبدأت عصافير الحزن ترحل عن عينيها الجميلتين, فقد انكمش الحوت الكبير أمام صدر مصر المتسع بعرض السماء, لم يستطع الحوت الكبير أن يمس قميص مصر برأسه الموجودة في واشنطن أو بذيله القابع في تل أبيب, وقفت الأهرامات تذكره بتاريخها الأقدم والعتيد. فكأنها جمعت آلاف السنوات في لحظة واحدة, كان صوت أجراس الكنائس أعلي من صوت كل المدافع, واشرأبت مآذن الأزهر الشريف لتخبر الأعداء أن هذه أرض ليست كالأرض, ولكنها أم الأراضين, وأم الدنيا كما سماها الإغريقيون واليونانيون, ورغم ذلك أوحي الحوت إلي تابعيه أن يدبروا بالليل لذر التراب علي وجه مصر, ويرسلوا الأفاعي بسمومها لتبثه في أرضها وشعبها وجيشها. وحين أكتب هذا الدرس لا أعني به بلدي مصر, بل إنني أعني الحقيقة, أتوجه صوبها لتصحيح المفاهيم المدسوسة علي أرض لم ترسل إلي جيرانها غير مراكب خير من أشعة الحياة, لتقابل سهام أعداء الحياة. وحينما كتب الأوربيون عن مصر أثناء الحرب العالمية الأولي أعلنوا جميعا أنه لولا وجود الجيش المصري لمساندتهم في الحرب ماكان هذا الانتصار للبشرية, فأوضح ملنر في تقريره قائلا: إن الشعب المصري تحمل تكاليف الحرب بصبر ورضا, وأن الخدمات التي قدمها فيلق العمال( سلاح المهندسين العسكريين حاليا) لاتقدر بثمن ولم يكن يمكننا الاستغناء عنها, فقد شارك الشعب المصري بجيش عظيم, وقدم كل مايملك من حبوب وحيوانات وأموال لتمويل هذه المعركة. وكانت الحكومة المصرية تطلب من شعبها تقديم ما يملكون من دواب للسلطة العسكرية للمعاونة في الحرب ثم تقوم الحكومة بتعويض أصحاب هذه الحيوانات والدواب, وهكذا كل حرب تخوضة مصر فإنه يقع علي عاتق الشعب المصري وبخاصة فئة الفلاحين الذين يدفعون أكثر الثمن. لقد علمت مصر الناس كيف ينتمون إلي بلادهم, حتي لو قدموا حياتهم لقاء أن يجدوا مكانا ليدفنوا فيه, فحينما تسأل الفلاح المصري من أنت؟ سيقول لك مباشرة: أنا من قرية كذا, وعائلتي منتشرة في قرية كذا, وهو أمر لاتعرفه العرب ولا العجم, فحينما تسأل العربي من أنت؟ يقول لك: أنا من قبيلة كذا, وحينما تسأل الأوروبي: من أنت ؟ يقول لك: أنا فلان موظف بكذا, أتري هناك من يرتبط بارضه مثل هذا الشعب, ليس الارتباط حبا وعشقا وغراما, لكنه ارتباط الحي بالحياة, ففي بعده عنها موت أكيد, حتي لو كان العيش رغيدا. لقد علمت مصر الإنسانية انسانيتها الحقة; ففي الوقت الذي لم يجد فيه المصريون العيش الكفاف, كانوا يجمعون الأموال لجرحي الحروب, وما أشبه اليوم بالبارحة, فقد جمع المصريون الفقراء أكثر من60 مليار جنيه في أقل من عشرة أيام لحفر قناة السويس الجديدة, ذلكم العنصر المصري الخالد, أبناء مصراييم بن نوح. فحينما طلبت بريطانيا مساندة الصليب الأحمر لعلاج الجرحي والمصابين, ونشرت( جريدة الأهرام) في عددها يوم28 أكتوبر1915 م هذه الرغبة البريطانية, وعلي الرغم من شظف العيش المصري, تبرع المصريون بمبلغ320 ألف جنيه مصري للصليب الأحمر البريطاني, حيث كان الجنيه المصري أغلي عملة في الوجود كله فكان أغلي من الجنيه الاسترليني وأغلي من الجنيه الذهب, وتساوي قيمته الحالية3200 جنيه, لقد أوهمت بريطانيا الحكام والشعب بأن هذه الأموال سوف ترد إليهم استقلالا محترما وعيشا رغدا, لكنهم كذبوا ولا يزالون يكذبون حتي لحظة كتابتي هذه, رغم أن تقرير ملنر( الموثق في الأرشيف الملكي البريطاني), يذكر الأموال التي حصلت عليها بريطانيا من مصر في صفحة12, وقد نشر هذا التقرير في التليجراف البريطانية عام1919 م, ويتضح في هذا التقرير البطولات الخارقة التي قدمها الجيش المصري مدافعا عن الانسانية في حقها العيش بكرامة وعزة, وتنشر الصحيفة في عددها الصادر في1919/9/29 م الاعترافات ببطولة وبسالة وعظمة الجنود المصريين, وكيف أنهم يخططون للحروب الحديثة وينتصرون فيها بكل براعة وحسن تنفيذ. فقالKearsy( في كتابه الذي نشره بعد الحرب العالمية الأولي, حيث كان يعمل سردار الجيش المصري أثناء هذه الحرب), قال: أنا لم أكن أتعجب من هذه الروح الحربية المنتشرة بين أبناء وطبقات الشعب والجيش المصري, وأنا متأكد تماما انهم سيظهرون هذه الروح القتالية الباسلة عند الحرب, وفي ميدان المعركة, فهم شعب يحافظ علي تقاليده المجيدة, وجنود مصر يتمتعون بالثقة والشجاعة وحسن السلوك, رجال الجيش المصري لي الشرف والفخر أن أكون سردارا لكم), وقد نشرت جريدة الأهرام المصرية(14 يناير1914 م), كلام السردار قبل أن ينشره هو في كتابه, حيث نقلت كلمته للجنود والضباط المصريين. لا يعلم الكثيرون أن جيش مصر هو أول مؤسسة مصرية في العصر الحديث, فمنذ نشأة مصر الحديثة في1805 م كانت أول وزارة مصرية تتكون فقط من وزارة الجهادية, فكان الجيش المصري يمثل الوزراة من بدئها لختامها, بقيادة إبراهيم باشا بن محمد علي والي مصر, والذي بدأت معه مصر الحديثة والتي لم تكن لها حدود آنذاك, مما حدا بالجيش المصري أن يسيطر علي كل الدول المحيطة به تقريبا, سواء في السودان أو ليبيا أو السعودية أو فلسطين وسوريا وغيرهم. ولم يكن هناك جيش نظامي معروف في المنطقة كلها سوي جيش مصر, تري لمن نزيف التاريخ ؟ تري لم ننتقص حق أكبر مؤسسة وأول مؤسسة نشأت في الشرق الأوسط وإفريقيا؟. من الرابح من تحول دور المؤسسة عن دورها الوطني في صيانة حقوق الشعب المصري في أرضه وشعبه؟, أقول لهم جميعا: اتقوا الله إن كنتم تعرفون الله, واتقوا مصر إن كنتم تعرفون قدر مصر, واتقوا شعبها فإنه يخرج أعداءه من التاريخ نهائيا. وأخص بالقول الدول الأوروبية التي انتصرت وأعلنت انتصارها علي أكتاف الجيش المصري; فعندما اشترك100 ألف مقاتل من جيش مصر مع جيوش الحلفاء تحولت الدفة مباشرة لصالح الحلفاء, في الوقت الذي كان يدافع الجيش المصري عن حدوده في الجهات الأربع( شرقا وغربا وشمالا وجنوبا), بل يدافع نيابة عن دول الجوار, وانتصر بفضل الله في كل المعارك التي خاضها ولا عدد لها ولا حصر, مما دعا اللورد الجنرال ماكسويل إلي طلب المعونة من هذا الجيش العبقري, وقد كان ماكسويل قائد جيوش الحلفاء في أوربا, وكانت له تجربة مع المؤسسة العسكرية المصرية عام1892 م حينما كان قائدا للجيش الانجليزي وحاول القضاء علي الاضطرابات الموجودة بالسودان, ومحاربة جيوش المهدي هناك, فما كان له لينتصر لولا استعانته بالجنود المصريين الذين ساروا حول ضفتي النيل مشاة بينما جنود بريطانيا يركبون السفن والمركب, وقد أذهل الكولونيل ماكسويل( وقتها), أن يري الجيش المصري( السائر علي قدميه حول ضفتي نيله) يسبق الجيش البريطاني المحمل علي السفن, يالها من معجزات لاتخلف موعدها مع جيش مصر, وما أشبه اليوم بالبارحة, فحينما ظن الأمريكيون أن جيش مصر استكان ورضي باحتلال أرض سيناء, وأن السلاح بيد الجندي المصري لن يمكنه من عبور قناة السويس باعتبارها أكبر مانع مائي, فإذا بجيش مصر يصنع المعجزة, ويعبر وكأنه ليس عبورا لمعركة, بل يخطف من العدو أكثر من30 كم شرق القناة في أقل من6 ساعات. لا الليل في الضفة الأخري ولا النذر... ولا الدماء كما الأنهار تنهمر لا كل هذا ولا الدنيا بقادرة... تصد جيشا دعاه الزحف والظفر يبدو أن الذين لم ينتبهوا أن جيش مصر يقدم الدروس لكل جيوش العالم, لم يتفهموا حتي اللحظة أن جميع فنون القتال بمعدات عسكرية وبغير معدات إنما هي من اختراع الجيش المصري. فأول حرب نظامية في التاريخ قدمها الجيش المصري قبل التاريخ, وأول حرب الكترونية في العصر الحديث قدمها الجيش المصري في حرب1973 م, ولذا فكل معاهد العالم العسكرية لابد أن يشتمل منهاجها التعليمي علي دراسة حرب الجيش المصري عام1973 م, وكلما أرادت دولة من الدول إنشاء معهد للعلوم العسكرية كانت حرب1973 م هي المحور الرئيس للعلوم العسكرية, مادعاني لهذا القول والميل بالدرس إلا وجود بعض من يسمون أنفسهم سياسيين واستراتيجيين ويتحدثون عن حرب أكتوبر وكأنها هزيمة لجيش مصر, غير مدركين لحجم المعجزة التي قام بها جيش مصر, فبسلاح قديم ينتصر علي أحدث الأسلحة, ويقوم هو بتطويرها ذاتيا ومازالت التجربة قائمة, وما زال جيش مصر كعهدنا به وسيظل بأمر الله سبحانه وتعالي, والذين صنفوا الجيوش حسب الإنفاق عليها, جاء تصنيف الجيش المصري مخالفا لتصنيفاتهم جميعا, فهو جيش لايقبل التصنيف لسبب واحد فقط وهو العنصر المصري الذي يحتويه هذا الجيش, ولذا فقد صنفوا الجيش المصري رقم13 علي مستوي العالم, رغم أن الدول التي تليه يزيد انفاقهم علي جيوشهم أضعافا مضاعفة عن الانفاق علي الجيش المصري. يصل جيش مصر للسودان وينصب مخيماته ويعد عدته ويختبر خططه قبل وصول الجيش الانجليزي, ويذهل ماكسويل حينما تبدأ المعركة ويري جنود مصر وهم يلحقون بالمحاربين من جيش المهدي في قلب الغابات دون خوف أو وجل من أرض لم يعرفوها ومن قبائل لم يألفوها, ومن أماكن يعرفها أهلها وهم لها جاهلون, فأظهروا بسالة وشجاعة حتي أعادوا السودان لمصر كوطن واحد. قال ماكسويل للجنود المصريين ساعتها: أنتم المثل الأعلي لي في الحروب, ولذا حينما صار قائدا عاما لجيوش الحلفاء طلب من مصر رسميا أن تمده بما يمكنها من الجنود لمساعدة جيوش الحلفاء ومساندة الشعوب الأوربية, فما كان من جيش مصر البطل إلا أن لبي النداء مدافعا عن القيم الإنسانية, ومرجحا كفة الأخلاق لكي تعيش شعوب أوربا التي كانت مطحونة وقتها تحت رزء التدمير الألماني والماكينة العسكؤية الالمانية, فلم يجد المصريون من محيص سوي الدفاع عن مباديء وقيم البشرية دون النظر لأخطاء منهم كانت في الماضي أو الحاضر. حينما وصل الجيش المصري عام1917 م إلي فرنسا قمت فرنسا بعمل حفل استقبال لهم وقد قال كاتب فرنسي حضر الاستقبال: جاءتنا فرقة من الجنود المصريين للعمل معنا هنا في أعمال مختلفة, جنود كلهم صحة ونشاط وأعجبنا حسن هندامهم, وقد فرحنا بهم ولما يبدون من الجدية والسرور), وحينما يبدأ الجيش المصري في حروبه بجوار الجيش الفرنسي تطير في أوروبا كلها عظمة جيش مصر وانتصاراته في معاركه بلا حدود وبلا تردد. ويسيطر الجيش المصري علي مرسيليا كلها بالفرقة71, ويسيطر علي دينكيرك بالفرق76,75,72, ويسيطر علي كاليه بالفرق79,77,74, ويسيطر علي بولوني بالفرقة80, وتقوم الفرق83,82,81 بمساندة الجيش البريطاني. إن الذين لايقدرون القوات المسلحة المصرية هم مستنزفون لوقتنا لاشك في ذلك, فالجاهل أكثر من يستنزف أوقاتنا, فالعلم حرب للفتي المتعالي, كالسيل حرب للمكان العالي. يدعوني المقام هنا أن أخبر الجميع أن مصر هي جيش من شعب وشعب من جيش, وأن الذين يراهنون علي التفرقة بين شعب مصر وجيشها إنما يراهنون علي تفكك الأسرة الواحد, بل يراهنون علي فصل السكر من الشربات, واللون من الورود.