ليست هذه هي المرة الاولي, التي تحاول فيها أمريكا الدس بأنفها بخصوص انتخابات مجلس الشعب المصري,وليست المرة الاولي التي ترد فيها مصر وبشدة, بأنها لم تقبل ولن تقبل بأي ضغوطات من الخارج, مهما كان نوعها وأيا كان مصدرها, واضعة نصب اعينها, المثل المصري القديم: ان العالم كله يرهب الزمان, لكن الزمان نفسه يرهب الاهرام.وان دل هذا علي شيء, فإنما يدل علي انه لعل بلدا من بلاد الارض, لا تصدق علي حضارته صفة الاستمرارية كما تصدق علي مصر, فقد جمعت الي القدم والعراقة, دوام الاتصال والاستمرار, ونظام الحياة النيابية نموذجا, والذي يعد ابتكارا مصريا صميما, بخلاف ما هو متعارف عليه كذبا, بأن مجالس الشيوخ, قد خلفتها حضارة اليونان, وعند هذا الحد نجد العون في كل من سجل الاثار المصرية, وسجل التاريخ المصري. هناك رأي بات يعتقد في صحته الكثير من علماء المصريات, انه في الفترة التي سبقت عصر الاسر الحاكمة ما بين عامي4500 3500 ق.م قد كان معروفا بين العشائر, التي هي أول طوائف نجدها في المجتمعات الاولي, ان كل عشيرة تمتلك المنطقة التي تنزل بها, وكان يشار الي كل منها باسم احد الرموز الدينية التي يحترمها رجال العشيرة كذلك كانت القوارب التي تمخر عباب النيل تزين بمثل هذه الشعارات, وكان الصيادون والفلاحون يتجمعون في هذه القري, التي صارت فيما بعد مدن المقاطعات للدفاع والتعاون المتبادل وللامن العام, ولا شك في انهم كانوا يخضعون في هذه المجتمعات, لمن كانوا اشدهم بأسا او اذكاهم او اكثرهم غني أو أعرفهم بالسحر. وبالنتيجة بزغ فجر مجالس الكهول أو الشيوخ, ويمكن ان نسمي هذا حكومة رأسمالية من الشيوخ ذوي النفوذ, الذين يجتمعون علي هيئة مجلس للبث في الامور المهمة, وهذا المجلس مقصور عليهم فعلا دون الشباب, وتضارع هذه المجتمعات الشورية مجلس الشيوخ في المجتمعات المتحضرة وقد نستطيع ان نرجع الي هذه الايام السحيقة في القدم, تقسيم مصر القديمة الي اثنين واربعين مقاطعة مستقلة, يلتف الشعب فيها حول قرية اكثر اهمية من سواها, ففيها السوق والمحكمة ومعبد الكائن المؤله, ومقر الرئيس او الرؤساء, وبهذا صارت العشائر جماعات اقليمية, واحتفظت المقاطعات التي خلفتها بأحد الكائنات المؤلهة, ومما لاريب فيها, ان تجمع القري حول الكائنات المؤلهة التي ستصبح فيما بعد الهة المقاطعات, يدل في مظهرها علي انها امتداد للعشائر تلك العشائر التي كان الاهلون يعيشون فيها في كنف الكائنات المؤلهة, وادارة مجلس الشيوخ الذين كانت التقاليد تضفي عليهم حكام مصر قبل الملوك, اما وقد اصبحت العشيرة قرية, فانها تشغل مقاطعة باسمها, تدار من قبل مجالس الشيوخ.. وهكذا نري ان القانون الدستوري الصوفي العائلي, والقانون الدستوري الاقليمي, يتداخلان ويؤثر كل منهما في الاخر. وهناك عدد من الدلائل. يميل الي اثبات ان مجالس الشيوخ العشائرية هي اقدم صور النظام السياسي التي يمكن ان نلقاها, عندما نصعد الطريق الذي يقود السلطان المركزي في المجتمعات البدائية في مصر الاسرات الحاكمة. إن الملكية الفرعونية المتشامخة, التي استقر بها المقام عند مدخل التاريخ, والتي تخفي صفحة وجهها المهيبة العصور التاريخية السابقة لها. لقد بات من المؤكد الان, علي ضوء أبحاث علماء ما قبل التاريخ انه لم يتم بناؤها دفعة واحدة, بل قام صرحها خلال آلاف السنين. كانت مصر كما رأينا مقسمة الي عشائر موزعة بين قبائل متعاونة, لكنها تتجه شيئا فشيئا من دولة ديمقراطية تعيش في رعاية الديانة التوتمية ومجلس الشيوخ الي دولة استبدادية بحتة, تعيش في كنف فرعون, لم يكن في مختلف العصور بشر كبقية البشر, بل اله او ابن للاله وتبع ألوهية الملك المصري اختلاف كبير في مركزه وسلطاته مطلقة لا تحدها حدود او تقيدها قيود سوي رغبة الملك الالهية في تطبيق الحق والعدالة بين الناس والسير بموجبها, وبعبارة اخري, كان الملك يقف علي رأس الهرم, الذي يمكن ان يمثل مركز الملك بالنسبة لبقية افراد الرعية, وبذلك كان ينبوع العدالة والشريعة, وبيده السلطة التنفيذية المطلقة, ولا يعني ذلك زوال كل اثر لمجالس الشيوخ, اذ يبدو انها لم تتوار تماما, بل بقيت بقية منها اشبه بصدي ضعيف لفكرة غاية في القدم, وهكذا يمكننا القول علي وجه اليقين, انه قد قامت في مصر الفرعونية في جميع العصور مجالس للشيوخ, وقد نسبت اليها نصوص الاهرامات الدينية في الاسرة السادسة, لكننا لا نعرف عن شئونها الا النذر اليسير, بيد ان الذي نعرفه تماما, عن طريق بعض النصوص الفرعونية, انه قد قامت في مصر خلال حكم الاسرات الفرعونية جمعيات السارو وهم مشاهير الاعيان الذين تتألف منهم الجماعات الكبيرة المحلية المعروفة بلفظ كنبتيو والاصل في ظهور السارو, اعتيادهم منذ القدم علي ان يجتمع فريق من الاعيان والشيوخ علي رؤوس الطرق الموصلة من القري الي المدائن في ايام الاسواق, ومفاوضتهم في احوالهم الحاضرة المقصودة بالذات في هذا الاجتماع, وكانوا بواسطة اتحادهم في الرأي, يعتبرون كوسطاء بين العمال والسلطة المحلية واشتهر هؤلاء وعرفوا بالذكاء والدراية وصاروا قدوة يعول علي رأيهم فانتخبوا في الجمعيات الحكومية الممثلة لاعضاء الهيئة المركزية ولم يتيسر لنا الوقوف علي طريقة تعيين هؤلاء الاشخاص المدعوين كنبتيو بيد انهم كما كانوا اعوانا للوزراء كانوا ايضا الاعضاء الحقيقيين للادارة المحلية, وينظرون كأول درجة في القضايا والخصومات المعروضة عليهم, ويعاونون الحكومة المركزية في اصلاح اغلاطها. وكانت تلك الجمعيات او المجالس تتطلب وصولا لصواب الرأي في المسائل المعروضة عليها انتداب خبراء فنيين منهم, للأخذ بتقاريرهم في الحقائق التي ينشدونها, وبهذا ثبت ان الاستعانة باراء, الخبراء كانت معروفة في ذلك العصر الموغل في القدم باسم سنحرو ومن فوائد الاستعانة بتلك الجمعيات, منع حيف الرؤساء علي صغار العمال, الذين كان لهم علاوة علي ذلك حق التظلم للملك مباشرة اذا كانت قراراتها مجحفة بهم. وباتباع هذه النظم, استطاع الافراد الفقراء المعروفون باسم نمحو ان يعرفوا بحقوقهم ويعملوا علي المحافظة عليها, بعد ان كانوا يغرقون في بحر النسيان والاحتقار والازدراء. وهكذا يمكننا القول, رغم ندرة المعطيات التاريخية المتوافرة لدينا حتي الان ان مجلس الشيوخ او مجلس نواب الشعب, انما هو ابتكار مصري صميم, يرجع اصلا الي ما قبل كل تنظيم سياسي, وان اول جماعة منظمة, وكانت خاضعة للكهول او الشيوخ لا للملك, فنحن اذن امام نظام عشائري اعاد الفن السياسي, بناءه, ثم اصابه التحوير فيما بعد, وهكذا كانت حكومة الكهول اذن في ذاكرة المصريين ذات اصل متوغل في القدم, ربما يرجع الي عهد اولي القري في العصر الحجري الحديث وبعبارة اخري قد ظهرت المسيرة النيابية في مصر, قبل ان تظهر الحياة النيابية بل قبل ان تظهر امريكا ككيان سياسي بأكثر من ستة الاف عام مضت. وبعد كل هذه الخواتم التوثيقية, التي ندر ان تمتلكها امة علي وجه الارض, فهل يعقل أن يأتي أناس لا تاريخ لهم اصلا, ويفرضوا علي بلد, كانت الحياة النيابية من معطياتها للبشرية, ويفرضوا عليها ضغوطاتهم, بخصوص اصلاح انتخاباتها النيابية.. فياله من تطاول علي حقائق التاريخ, لا يجرؤ عليه الا نخاسو التاريخ.