قبل37 عاما كانت القوات المسلحة المصرية تعلم جيدا أن سبيلها الوحيد إلي شبه جزيرة سيناءالمحتلة هو عبور قناة السويس واجتياز أسطورة خط بارليف, ولأنها أقدم المؤسسات العسكرية في التاريخ الإنساني علي الإطلاق أدركت أن خط بارليف لايعدو كونه ساترا ترابيا يتطلب اختراقه دراسة أبعاده ومعرفة نقاط تحصينه لوضع خطة تعبر بالجنود المصريين إلي الضفة الشرقية.ورغم مرور ما يقرب من4 عقود علي انتصارات أكتوبر المجيدة يبدو لي وكأننا بحاجة إلي عبور آخر مقصده هذه المرة الإنسان في بادية سيناء. جاءني هذا الشعور بعد زيارة طفت خلالها قري ونجوعا في شمال وجنوب شبه الجزيرة قارنت أثناءها بين ما كان لدي من انطباعات وتصورات عن بدو مصر عموما وبدو سيناء علي وجه الخصوص وبين ما رأيته وسمعته هناك.وللحق أشير إلي أن هذا النوع من العبور مهد له بعض الدارسين والباحثين المصريين أذكر منهم علي سبيل المثال لا الحصر عالمة الاجتماع الدكتورة إيمان البسطاويسي بمعهد الدراسات الإفريقية التي شرعت في إجراء العديد من الدراسات الاجتماعية والإنثروبولوجية في بادية سيناء منذ عام1979 ومع ذلك لم تهتم النخبة المثقفة بذلك النوع من الدراسات واعتبارها سبيلا للعبور نحو بدو سيناء, والتعرف علي طبائعهم وخصوصيتهم الثقافية, ومن ثم ضلوا الطريق لمعرفة سيناء علي حقيقتها بل إنهم خلقوا في خطابهم اسطورة ثقافية تعزل المجتمع البدوي في سيناء عن امتداده الطبيعي في وادي النيل, ويتضح ذلك في حديث بعض المثقفين والسياسيين الذين يعتبرون أن البدو يعيشون نفس نمط حياة البداوة التقليدية بكل تفاصيلها ومن رحم هذه التصورات النمطية والفوقية نجد بعضهم يخرج بين الحين والآخر يشكك في الانتماء الوطني للبدو, وهي أساطير تحتاج لخطط تنسفها كما نسفت اسطورة خط بارليف. الساتر الذي يحول دون الإنسان في بادية سيناء وضعه المثقفون هذه المرة واكتفوا بالحديث عنه من الخارج ودليل ذلك في ظني وكما لاحظت هو الضعف البالغ لوجود الأحزاب السياسية المعارضة في شبه جزيرة سيناء إن اعتبرنا وجود هذه الأحزاب يمثل حلقة وصل أو بالأحري وسيلة لنقل تصورات وأفكار وطموحات أهالي سيناء في الحضر والبادية برؤي سياسية مختلفة, حتي إن محافظة شمال سيناء لا يوجد بها تمثيل للأحزاب المعارضة سوي لحزبي التجمع والوفد فيما تخلو محافظة جنوبسيناء من أي وجود لأحزاب المعارضة وفي المقابل تنشط وحدات وأمانات الحزب الوطني بالمحافظتين. ولعله من المناسب أن أذكر في هذا السياق حوارا جري بيني وبين شاب من قبيلة الترابين التي تمتد عشائرها بين شمال وجنوبسيناء سألت خلاله محمد الترباني عما إذا كان البدوي يعتبر الصحراء وطنه الأول والأخير, فقال: للأسف هذا ما يعتقده غالبية سكان وادي النيل في بدو سيناء وربما كان هذا الاعتقاد وراء تشكيك البعض في مصريتنا لكني أفهم والكلام لايزال لمحمد أن هذا الاعتقاد لا يحمل اتهاما لنا بالولاء لدولة أخري والأمر ببساطة هو أن البدوي يعتز بالعادات والتقاليد التي فرضتها طبيعة الصحراء علي سكانها, وهي بمثابة الدستور الذي ينظم العلاقات فيما بين القبائل والذي يحكم به القضاة العرفيون والاعتزاز بالبداوة إذن لا يعني الانفصال عن الوطن الأم بقدر ما يعني الانتماء إلي نمط حياة لم يطرأ عليه تغير جذري وحاول الشاب البدوي تقريب المسألة أكثر متسائلا: ألا يعتز أهالي الصعيد بعاداتهم وتقاليدهم وانتماءاتهم العصبية وإلا يصر سكان الدلتا علي التمسك وبسلو الفلاحين كما يقولون؟! هذا هو الأمر بالنسبة لنا لا أكثر ولا أقل, ربما لا تصلك الرسالة التي أراد هذا الشاب ايصالها ببساطة إذا تكرر علي مسامعك وصف بدو سيناء لسكان وادي النيل ما قبل كوبري السلام بالمصريين لكن التعايش ومحاولة الفهم يمكنانك من الوصول إلي تلك الحقيقة, التي يمثل غيابها عن النخبة الإعلامية والمثقفة إزعاجا لبدو سيناء كما قالت لي فضية سالم عبيد الله المحامية بالمجلس القومي للمرأة بجنوبسيناء التي تعتد, بانتمائها لقبيلة المزينة ولا تشعر بأن مصريتها هي وأبناء البادية في سيناء تحتاج لتأكيد وإلحاح في كل مناسبة يجري فيها الحديث عن سيناء, وتقول: يكفي أن راعيات الأغنام هن من كن يخفين آثار القوات المصرية وساعدن في إخفاء الفدائيين عن أعين قوات الاحتلال. إن العبور إلي الإنسان في بادية سيناء من أجل فهمه والتعرف عليه هو المفتاح الذهبي لتعمير شبه الجزيرة وانقل في هذا الإطار خبرة ناشطة حقوقية قاهرية انتقلت إلي سيناء لتعمل من خلال مؤسسة المجموعة النسائية لحقوق الإنسان بين النساء البدويات حيث قالت أسماء سليمان من خبرتي العملية أدركت أن تمكين البدو نساء ورجالا من حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية كالتعليم والعمل والرعاية الصحية والبيئة الملائمة كفيل بتغيير نمط الحياة التقليدية القديمة من حيث السلوك والمفاهيم وهو ما يعمل بدوره علي صياغة علاقة صحيحة بين البدو كسكان أطراف والدولة في المراكز. مجمل القول إن علي مؤسسات المجتمع المدني جمعيات وأحزابا أن تنشظ للقيام بدورها وألا ينظروا لسيناء من أبراج عاجية لا تعي ولا تفهم ومرة أخري أكرر دعوتي للمثقفين والفنانين إلي نقل الثقافة البدوية وجمع تراثها من أغان وسير لاتزال تجري علي ألسنة فنانيها الشعبيين ونقل كل ذلك إلي أسماعنا وأبصارنا.