يقول المعلق الأمريكي ماريك مارتن: إن إبعاد هيلين توماس بعد تصريحها المناهض للصهيونية. برهان جديد علي البيئة الفاسدة في واشنطن الرسمية وما حدث لأيقونة البيت الأبيض, يشبه شيئا من قبيله فيما حدث للجنرال( ستانلي مكريستال) أفضل قائد للقوات الدولية في أفغانستان, بعد تصريحاته الساخرة من أوباما وبطانته من القائمين علي الحرب في أفغانستان. بطريقته الدائمة في المواءمة بين مواقفه ومواقف المحافظين الجدد والإيباك وإسرائيل, انضم أوباما إلي الحملة ضد هيلين, ووصف تعليقاتها حول إسرائيل بأنها مسيئة, كما علق علي تقاعدها الاجباري بأنه القرار الصائب, ولم تمضي سوي أيام قليلة, حتي جاء دور مكريستال, ليفضح استراتيجية أوباما, التي تحاول التهرب من عبء هزيمة تلوح في الأفق. ولا يمكننا فهم هذه القضية فهما صحيحا, إلا اذا وضعناها وضعا يجعلها جزءا من التاريخ. ولا أعدو الصواب اذا قلت, إن هذا الانحراف في الاستراتيجية الأمريكية. قد واكب بداية تاريخ استقلال أمريكا, بشهادة جورج واشنطن نفسه, إذ يقول: إن اليهود أضر بنا من جيوش العدو, إنهم أخطر من العدو مائة مرة, أخطر علي حرياتنا وعلي القضية التي نعمل جميعا لكسبها. إنهم أخطر عدو علي سعادة أمريكا ويمكننا أن نذكر في هذا السياق, أن اليهود منذ عهد واشنطن, لم يألو جهدا في سبيل اختراق دوائر القرار في أمريكا, بل والسيطرة عليها. ولا أجد تعبيرا أكثر إحاطة في وصف هذا الانحراف. من ذلك الذي صاغه أرنولد توينبي بقوله: إن تاريخ أمريكا خاصة بعد الحرب العالمية الأولي, يجسد ثورة مضادة دائمة ومتواصلة في العالم... وأكد أيضا: أن التطور التاريخي والتوسعي لأمريكا, هو معارضة إمبريالية كونية ضد التاريخ وفكرة التقدم التاريخي. وهذا النسق من الأفكار يشبه عن قرب ما جاء علي لسان المفكر الأمريكي( هنري ميللر): بأن المشروع الأمريكي ساقط, حتي وهو في ذروة انتصاره.. وليس الحديث عن التاريخ الكامل للمشروع التوسعي الأمريكي من أهدافنا, ذلك أنه موضوع لا نهاية له, ولذلك سنتوقف عند الحرب العالمية الثانية, التي دمرت أوروبا والاتحاد السوفيتي واليابان, ومن ثم كانت فرصة مناسبة لتطور تكنولوجي مذهل في أمريكا, فهي الدولة الوحيدة التي نظمت قيادتها العسكرية علي مستوي الكرة الأرضية, وقد توجت هذه المرحلة ما بين العامين1989 و1991, حيث حسمت أمريكا الحرب الباردة بالضربة القاضية في مواجهة الاتحاد السوفيتي, مما أدي إلي هيمنتها التامة علي العالم, بصفتها القطب الأوحد, ويري روجيه جارودي في كتابه أمريكا طليعة الانحطاط كيف تعد للقرن الحادي والعشرين : أن أمريكا في خطتها للسيطرة علي العالم بعد انهيار الاتحاد السوفيتي, عينت العدو البديل الذي يجب القضاء عليه, وهو الإسلام وحلفاؤه المحتملون فيما يسمي بالعالم الثالث, بيد أن الرياح أتت بما لا تشتهي سفن أمريكا, ذلك أن روسيا تركت أمريكا منذ فترة تتمدد عسكريا في العالم, وتسقط في مستنقعي أفغانستان والعراق, بتكاليفهما المالية الباهظة, التي لا تفوقها إلا خسارة أمريكا في الكساد الاقتصادي العالمي الأخير. ويبرز جارودي قضية تحول أمريكا من أكبر دولة دائنة في العالم إلي أكبر دولة مدينة في العالم, فديون أمريكا تتجاوز العشرة تريليونات من الدولارات, وليس سرا أن تفاعل الحرب مع الديون, يودي بالامبراطورية إلي حتفها, وهذا ما يؤكده المفكر البريطاني( جون جراي) في معرض تحليله للأزمة المالية التي كادت تفتك بالزعامة الكونية الأمريكية, فقد أهدر بوش الإبن في حرب العراق ما يربو علي700 مليار دولار دون طائل, فلما حان وقت انفجار فقاعة الديون العقارية, التي اصطنعتها الممارسات الرأسمالية الجامحة نحو الربح, بدت أمريكا علي حقيقتها وهي تقف مذعورة علي شفا الهاوية. وقد أثبتت الأيام, أن الادارة الأمريكية علي عهد أوباما, لم تختلف عما كانت عليه في عهد بوش, ويتمثل ذلك في إخفاق أوباما في الوفاء بالوعود التي أطلقها في خطابه في جامعة القاهرة, وغياب الحسم في مواقفه العملية من الصراع العربي الاسرائيلي, التي تناقض وعوده. وفشله في إلزام إسرائيل باحترام الشرعية والقانون الدولي, وهكذا بات من المؤكد الآن أكثر من أي وقت مضي أن أمريكا ووراءها الغرب, لا يريدان من العالم العربي غير موارده وخاصة النفط, والأسواق المفتوحة علي مصراعيها, وإيداع الأموال العربية في مصارفهم, لتمويل مغامراتهم الاقتصادية في فقاعات مالية خاسرة, وفوق هذا محاربة الارهاب بالمفهوم الخاص بهم, بالخلط المتعمد والمتعسف بين المقاومة والارهاب, في الوقت الذي لا يقدمون فيه للعرب غير الفتن بين المذاهب والأعراق لتمزيق شملهم اجتماعيا وسياسيا. ونحن وإن تعرضنا لشيء طفيف من التكرار, لاتخاذ الوضوح التام رائدا لنا في المسألة العربية بالذات, نذكر أنه من سوء حظ أوباما والذي دائما يرافقه جاءت حكومة إسرائيلية متشددة في إسرائيل فرفضت الطلبات الأمريكية منذ البداية, بل وتمادت في الاستيطان بالاعلان عن مشروعات استيطانية جديدة في الضفة والقدس, واعترف أوباما نفسه بالفشل في إقناع إسرائيل بأي من آرائه. وقد جاء الهجوم الاسرائيلي علي أسطول الحرية التركي, ليفضح الموقف الأمريكي, فعندما طالب كل من لبنان وتركيا بأن يحتوي البيان علي دعوة للأمم المتحدة للقيام بتحقيق مستقل حول الاعتداء الاسرائيلي, رفضت أمريكا ذلك بقوة, كما رفضت أن يتضمن البيان عبارة تدعو إسرائيل للتقيد بالتزاماتها وفقا للقانون الدولي والقانون الانساني, بل إن جوزيف بايدن نائب الرئيس الأمريكي أشاد بإسرائيل لهجومها علي تلك القافلة الانسانية. وهكذا برهنت أحداث عام كامل علي أن استخدام القوة الغاشمة, يزداد يوما بعد يوم علي أيدي إدارة أوباما وربيبتها إسرائيل. ورغم ذلك كله, فليس هناك ما يدل علي نجاح أوباما في تغيير الموقف في العراق وأفغانستان وباكستان. فبشهادة العسكريين, ما من شيء يبشر بالخير. فمازالت القوات الدولية عند نقطة البداية من استراتيجية أوباما, بل تشير جميع المعلومات المتوافرة حاليا, إلي أن الادارة الأمريكية قد فشلت في حماية الأمريكيين, وأن ما حدث في11 سبتمبر عام2001, يمكن تكراره المرة تلو الأخري, والسبب واحد وهو أن اليد اليسري في الادارة الأمريكية, لا تعرف ما تفعله اليد اليمني, أما بالنسبة لمسألة المف النووي الايراني, فلا يعدو نجاح إدارة أوباما فيه, تشكيل إجماع روسي صيني علي فرض حزمة جديدة من العقوبات ضد إيران, وليس هناك ما يضمن استمرار تماسك هذا الاجماع. وقد وصل الانحراف في الاستراتيجية الأمريكية إلي الحد الذي تتخاذل فيه عن إعلان الحرب شركات بترول, ثبت تقاعسها عن وضع خطط طارئة لمواجهة كوارث بيئية تتسبب فيها. ومما نستطيع أن نخلص إليه, أن كل العوامل التي أسلفنا ذكرها فيما يخص انحراف الاستراتيجية الأمريكية, وتآكل المجتمع من الداخل, وانهيار الأسرة والبطالة, وضغوط الضرائب والفساد الاداري, وتحكم اللوبي اليهودي بمقدرات السياسة الداخلية والخارجية لأمريكا, وغضب الشعوب, ملامح مشتركة لا تبشر بمستقبل أفضل للقطب الأوحد, وربما تفضي المعايير المزدوجة, وغياب الأخلاقيات السياسية إلي نهايات سيذكرها التاريخ.