بعض الأخطاء السياسية لا يغفرها الشعب، لا يدعها تمر مرور الكرام دون أن يعطي درسًا للسياسيين كي لا يكرروا ما يرتكبون من أخطاء في حقهم، وهذا ما حدث منذ 400 سنة مضت، حين أقدم خاير بك، في عهد آخر سلاطين المماليك، قنصوه الغوري، على اقتراف خطأ بتحريضه للفقهاء بمكةوالمدينةالمنورة ببلاد الحجاز بإصدار فتوى لتحريم شرب القهوة على المقاهي. التاريخ لا يعرفنا الأسباب الحقيقية التي دعت خاير بك، الذي كان يتولى إمارة مكةالمكرمة من قبل السلطان قنصوه الغوري، في اجتماعه بالفقهاء لإصدار فتوى منهم لتحريمهم شرب القهوة، رغم تأكيدهم له أنها مجرد نبات. هل جاء التحريم بسبب اقتصادي وغطاء ديني؟ أم لأسباب أخرى؟ إلا أن خاير بك أوضح للفقهاء أنه يرفض اجتماع المواطنين حول شوارع الحرم المكي لتناول القهوة. وأكد لهم أنه اجتمع مع الأطباء فأكدوا له أنها مفسدة للبدن المعتدل، فيما كان على الفقهاء أن يرضخوا لطلبه، مؤكدين أن التحريم لابد أن يكون مرتبطا بشربها في العلن في المقاهي. وحين استوثق من الفتوى أذاع في طرقات مكةوالمدينةالمنورة معاقبة شاربها، وقام بإعطاء أمر مباشر لحرق محلات البن كافة في مخازن التجار، بل قام بعقاب أحد شاربيها سرًا بوضعه على ظهر حمار وتجريسه في الشوارع ليكون عبرة لغيره، واستمر في حملة مداهمات للمقاهي، والمدهش في الأمر أن فقهاء مكة أرسلوا إلى فقهاء القاهرة سؤالا عن القهوة. وربما من هذه الأسئلة، كما يثبت التاريخ، وضع صاحب المخطوطة موسى المحاوب الحنبلي، الذي عنونها بعنوان "السر المكنون في مدح القهوة والبنون" بخط يده في محافظة قنا، الذي كان على ما يبدو متشددًا، إلا أنه كان يتغزل في القهوة سرا، ويشربها، مؤمنا أشد الإيمان بعدم تحريمها. يؤكد ضياء العنقاوي، الباحث التاريخي الذي بحوزته مخطوطة موسى المحاوي، ل"بوابة الأهرام" أن مؤلف المخطوطة وضعها بعبارة السؤال والجواب، بناء على صيغة الأسئلة والأجوبة التي كانت متداولة بين فقهاء مكةالمكرمةوالقاهرة، لافتا إلى أن المخطوطة التاريخية عثر عليها ناقصة في أحد منازل قنا العريقة، والتي تتصل بصلة قرابة ونسب مع القبائل الحجازية. وربما لهذه القرابة السبب الكبير في العثور عليها بمحافظة قنا؛ حيث إن أغلب المخطوطات الدينية في الصعيد مؤلفوها من المذهب المالكي؛ حيث أن الصعيد معروف بعشقه لفقه مالك بن أنس، رضي الله عنه، وليس الحنبلي مذهب موسي المحاوي مؤلف المخطوطة. وربما كان المحاوي الحنبلي، الذي كان يعيش في مكة في العصر العثماني ومشاهدته لحالات الشغب التي حدثت من قبل المواطنين الرافضين لصدور فتوى بتحريم شربها في المقاهي، ومشاهداته لحالات التجمهر والغضب من قبل المواطنين بشوارع المدينةالمنورةومكةالمكرمة وبعدها القاهرة، هي التي جعلته ينكب على تأليف كتابة هذا المخطوطة بصيغة سؤال وجواب. ولكن الأشد غرابة أن الفقيه، الذي كان ينتمي للحنابلة المشهورين بالتشدد، يمدح القهوة، ربما لأنه كان من مدمني شربها سرا، ويتشوق إلى أن يشربها في العلن، إلا أن أجمل شيء في المخطوطة المتواجدة بالصعيد أنه أيقن أن على المتشددين، ومعهم السياسيون، الرضوخ لما يريده الشعب وهو الحرية في الملبس والمأكل وأيضًا المعتقد دون التقييد؟ هذه هي أسئلة المخطوطة الأساسية التي اتخذت نهج الدين الإسلامي السمح. يضيف العنقاوي أن القاهرة لم تكن تحرم شرب القهوة، وأن السلطان قنصوة الغوري أرسل لخاير بك يأمره بالرجوع عن تحريم شرب القهوة بعد أحداث الشغب التي شهدتها شوارع المدينةالمنورة في عام 1524م من قبل الرافضين لتحريم شرب القهوة وفتاوى فقهاء خاير بك، الذين كان أغلبهم من المنتمين للمذهب الحنبلي، إلا أن خاير لم يتراجع، مما جعل موجة المظاهرات وحالات الشغب تمتد للقاهرة التي لم تكن تحرم شربها على المقاهي. عدوى التحريم أصابت القاهرة حين هاجم فقيه حنبلي متشدد القهوة ومن يشربونها على المقاهي في خطبة دينية على المنبر، مما دفع المستمعين له لتحطيم المقاهي بعد خروجهم من المسجد لتعيش القاهرة حالات شغب في أيام عصيبة من أجل القهوة مثل طرقات المدينةالمنورةومكةالمكرمة. حين دخل العصر العثماني انتقلت عدوى التحريم إلى اسطنبول بتركيا؛ حيث أصدرت السلطات قرارا بتعقب شاربي القهوة ومطاردتهم؛ بسبب أنها "حرام شرعًا"، واستمر الحال على ما هو عليه حتى جاء عصر السلطان العثماني مراد، الذي قام بتعيين مفت جديد، والذي أصدر فتوى بعدم حرمة شرب القهوة، لتكون القهوة غير محرمة دينيًا، حتى لو تم شربها على المقاهي.