في نصف القرن الماضي بزغت نجوم وخفتت نجوم وبقى نجم هيكل لامعا لاينطفئ.. يذهب ويجيء الحكام ويبقى محمد حسنين هيكل الأستاذ الذي قدس كلمته. رحل كاهن المعبد الذي دخل محرابه حكام مصر على تتابعهم وإن انقلب أحدهم عليه ووقفوا ضده تارة أو أيدوه تارة. ولد محمد حسنين هيكل بقرية الباسوس بالقليوبية عام 1923 وخرج من رحم القدر ليمثل همزة الوصل بين الحكام الذين تتابعوا على مصر ويصبح أحد أهم الصحفيين العرب والمصريين بالعالم. بدأ الأستاذ رحلته مع الكلمة عام 1942 في جريدة الايجيبشيان جازيت وكانت أول خبطة صحفية له عن فتيات الليل ، ثم توهج مع تغطية أحداث الحرب العالمية الثانية ليلازمه الحظ ويبقى حليف له بعد ذلك طوال حياته المهنية. تحدى هيكل المرض حين كان يعمل مع الأخوان مصطفى وعلي أمين في مؤسسة أخبار اليوم وذهب لتلك القرية التي اجتاحها وباء الكوليرا عام 1947 لينقل للقارئ "الحياة في قرية الموت". أصبح هيكل رئيس تحرير مجلة آخر ساعة عام 1952 عقب إعلان علي أمين استقالته من هذا المنصب في مقال وتقديم هيكل للقراء باعتباره خليفته. اقترب هيكل من دائرة صنع القرار شيئا فشيئا ليصبح بعد عشرة أعوام لصيقا بالرئيس الراحل جمال عبد الناصر ويبدأ عزف مقطوعة على أوتار الحياة السياسية المصرية. تزوج هيكل عام 1955 من هدايت علوي تيمور وأنجب منها ثلاثة أولاد هم أحمد هيكل وحسن هيكل وعلي هيكل وتولى رئاسة مجلس إدارة وتحرير جريدة الأهرام عام 1957 ولمدة 17 عاما باتت الأهرام وقتها واحدة من أهم عشر صحف بالعالم. لم يترك الأستاذ الأهرام إلا عام 1974 بعد قول الرئيس الراحل محمد أنور السادات إن هيكل لم يعد يعمل صحفيا وإنما سياسيا. ولم يتخل عنه الحظ رغم انقلاب السادات عليه واعتقالات سبتمبر 1981 التي طالته فمثلت هذه المرحلة في حياته الظلمة التي تسبق النور الساطع. لم يكن هيكل بمثابة كاتب للسلطة كما رآه البعض.. ولكنه كان بوصلة الأحداث السياسية والباب النافذ على أحداث المستقبل فكما أيد الرئيس السابق محمد حسني مبارك في أول حكمه وأشاد به، وأشار لمخطط التوريث في إحدى محاضراته بالولايات المتحدةالأمريكية عام 2002. لم يغفل الأستاذ ثورة 25 يناير فوثقها من وجهة نظره في ثلاثة كتب، وكانت له رؤيته السياسية وتحليلاته وقت تولي الإخوان الحكم وقبيل مجيء الرئيس عبد الفتاح السيسي لحكم مصر قدم له الوصايا والنصائح وبقى هيكل مثلا من أول حياته المهنية وحتى اللحظات الأخيرة في عمره متصل بدوائر صنع القرار. له العديد من المؤلفات التي تمت ترجمتها لمختلف اللغات العالمية أبرزها خريف الغضب أكتوبر 73 السلاح والسياسة المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل وكذلك حاور العديد والعديد من الشخصيات العامة العالمية. وكما تحدى هيكل المرض في بداية حياته لينقل للقارئ معاناة قرية القرين من وباء الكوليرا، صارع المرض أيضا في آخر لحظات عمره لينهزم ويلحق بالرفيق الأعلى اليوم. نعاه الرئيس عبد الفتاح السيسي قائلا: فقدت مصر عَلَماً صحفياً قديراً، أثرى الصحافة المصرية والعربية بكتاباته وتحليلاته السياسية التي تناولت فترات ممتدة من تاريخ مصر والأمة العربية، وكان مدرسة صحفية متميزة جمعت بين التحليل السياسي وروعة الأسلوب الصحفي وكان لجهود الفقيد عظيم الأثر في النهوض بصحيفة الأهرام العريقة إبان رئاسته لمجلس إدارتها وتحريرها حتى أصبحت من أكبر الصحف على مستوى العالم.. سيظل الفقيد رمزاً للكاتب الصحفي وخيرَ معلمٍ لأجيال من الصحفيين. وربماأدرك هيكل أن الكلمات تعطي لأصحابها الخلود، فظل يتكلم ويحلل حتى لحظات عمره الأخيره لتذهب الروح وتبقى الكلمة.