حين وقع حادث اختطاف الجنود في سيناء أخيرا، تحركت جميع أجهزة الدولة، المعنية والسيادية، بحثا عن الخاطفين.. وفي كل مرة تنتفض تلك الأجهزة لاحتواء الأزمة، وفور انتهاء المهمة المكلفين بها، يخرجون من سيناء بلا رجعة، إلى أن يقع حادث جديد، ثم ينتفضون مجددا، تاركين قضايا أخطر وأهم، ومن بينها: من يعتلي منابر المساجد في سيناء؟ وماعلاقة الجهاديين والجماعات المتطرفة والتكفيرية بتلك المنابر؟ وفي أي شئ يكون مضمون الخطب في مساجد أرض الفيروز؟ كانت تلك التساؤلات محل بحث ميداني قامت به "بوابة الأهرام" من داخل سيناء، في محاولة للوصول إلى تفسيرات غابت عن أجهزة الدولة، سواء كان الغياب سهوًا أو عمدا، لكن كانت نتيجة النسيان واحدة، وهي: الكارثة التي اقتربت من تدمير سيناء عبر العقول والثقافات المتطرفة التي يروج لها من يعتلون منابر تلك الأرض التي ارتوت بدماء أبنائها عبر سنوات طويلة. من مدينة رفح، كانت البداية، حيث ابتعدنا عن الهدوء والسكينة التي تسود منطقة العريش، ذات الطبيعة الحضرية والمتمدنة، وانتقلنا إلى كرات اللهب التي تتناثر كل فترة من مدينة رفح وقراها التي تعد موطنا للتكفيريين والجهاديين والمتطرفين. كان الشيخ فهد أبوعمير، يجلس على قارعة الطريق الواقع بعد كمين الماسورة، الذي يقترب من المكان الذي قتل فيه جنود الجيش خلال شهر رمضان من العام الماضي، جلسنا إليه وسألناه عن طبيعة إدارة المساجد في منطقة رفح، فأجاب: في الغالب تكون إدارة المساجد تابعة للقبائل ذات الصيت الواسع، لكن هناك أشخاصا وجماعات يتولون إدارة المساجد التي لاتتبع وزارة الأوقاف، وكثيرا مايكون خطباء هذه المساجد ذات توجهات غريبة. عاودنا بسؤال: وهل تتذكر أحد الخطب التي أغضبتك، فقال: "حضرت خطبة الجمعة ذات يوم في أحد مساجد منطقة المهدية، فوجدت الخطيب يقول إن الجهاد ضد مطيعي الأوامر والذين يمنعون قتل العدو حلال، في إشارة لقوات الأمن. وأضاف أبوعمير: "نعم هناك أشخاص من جماعات التكفير والهجرة وجهاديون ومتطرفون يعتلون منابر المساجد، ولايستطيع أحد من المصلين منعهم، أو معارضتهم فيما يقولون، لأنهم في الغالب سينتقمون من أى شخص يعارضهم، كما أنهم يتمتعون بشهرة واسعة، ولديهم من المال والسلاح مايؤهلهم للانتقام من أى شخص يقول لهم، إن الإسلام برئ منهم. وإلى جوار أبوعمير، كان يجلس الشيخ سالم الشاعر، وهو من منطقة تسمي "البرث" وهي تقع بقرية الظهير، التابغة لمدينة رفح، وقال: "مساجد سيناء بها خطباء لو كفرونا مينفعش نتكلم كلمة واحدة، وفعلا بيحللوا حاجات ويحرموا حاجات، وكل قرارات الدولة عندهم ضد الشريعة، حتى تطهير سيناء من المجرمين، وبيعتبرونها جريمة تستحق الرد عليها ولو بالدم". سألناه: وهل أجهزة الأمن تعلم بذلك، فأجاب: "الأمن هنا مش عارف يعمل إيه ولا إيه.. مش هيسيب الدنيا كلها ويمسك في اللي بيخطبوا يعني، وأنا عايز أقولك إنهم ساعات بيقولوا كوارث في الخطب ومحدش يقدر يقول حاجة معاهم". تركنا أبوعمير والشاعر، وانتقلنا إلى مدينة الشيخ زويد، حيث استوقفنا الشيخ سلمان أبوقرة، وهو يعيش في ذات القرية التي ألقت قوات الجيش فيها على 6 منها بتهمة الضلوع في قتل جنود رفح العام الماضي، وسألناه عن ذات الموضوع فقال: "هناك مساجد بسيناء استبيح فيها كل الكلام.. تكفير وجهاد وتحريض على أناس أبرياء". سألناه: وأين تقع هذه المساجد، فأجاب: "توجد في المناطق الجبلية، والبعيدة عن أعين رجال الأمن، وغالبا تكون بعيدة عن المناطق السكنية، ويتم بناؤها في المناطق التي يعيش بها سكان العشش من ذوي التوجهات الدينية المتطرفة، والكارثة أن هؤلاء الخطباء يتواجدون بين الناس ونعرفهم بالاسم والشكل، لكن لايستطيع أحد أن يقف أمامهم، ولو حتى بالكلمة". وأضاف: "هنا مساجد تابعة لوزارة الأوقاف، لكن ليس بها إمام ولا خطيب، لكن إدارتها تكون تابعة للأوقاف فقط، وتترك حرية اختيار الخطيب للمصلين أنفسهم، وبات كل من يريد أن يعتلي المنبر يصعد عليه ويقول ما يشاء، لكن في أحيان كثيرة، يخرج عقلاء القبائل ويمنعون المتشددين والجهاديين والمتطرفين من الصعود للمنابر، ويحرضون الناس ضدهم". من كلام المصلين، إلى مصدر أمني رفيع المستوى، حيث سألناه في ذات الأمر، وكانت المفاجأة أنه أكد وجود مساجد بسيناء يخطب فيها تكفيريون وجهاديون، معتبرا أن هذه المساجد تبعد عن المناطق المهولة بالسكان، وغالبا ما تكون في قري هذه المدن. وهنا كان ردنا عليه: لكن تلك الشخصيات تنمي فكرة التطرف والإرهاب ضد قوات الأمن، وتجعل من تكوين ثقافات متطرفة أمرا سهلا، لكنه قال: "نعم.. ولكن سيناء بها مشاكل أضخم من هذه الظاهرة بكثير، وأنا أقر مثلك بخطورة مايحدث بهذه المساجد، لكن الناس اتعودت". وختم كلامه قائلا: "السلفيون يسيطرون على نسبة كبيرة من مساجد سيناء، لكن سيطرتهم على المساجد في مناطق عدة برفح والشيخ زويد وقراهم النائية، يكون أمرا شبه مستحيل.. ومن هنا تكمن الخطورة، حين يعتلي المنبر شخص تكفيري أو جهادي متطرف". إلى هنا انتهت الإجابات، تاركة خلفها تفسيرات بالجملة.. كل تفسير منها يحمل مخاطر كفيلة بأن تضرب وطنا بأكمله، ويكفي أن من يعتلون منابر بعض المساجد ب"أرض الفيروز" جهاديون وتكفيريون ومتطرفون.. يكفرون مايشاءون، ويحللون مايريدون.. ومن هنا يكون التحذير: قبل أن تبدأوا تنمية أرض الفيروز، ابدأوا بتطهير العقول من ألغام التطرف.