د. شوقى علام مفتى الجمهورية تكلمنا فى المقال السابق عن دور مبدأ الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فى تحقيق مقصود الشرع من «حفظ الدين»، وسمات أهميته فى الحفاظ على استقرار المجتمع المتدين بصورة صحيحة، ونعالج فى هذا المقال دور هذا المبدأ فى تحقيق مقصود الشرع من «حفظ النفس». إن الحفاظ على النفس الإنسانية لا يتم إلا من خلال منظومة تشريعية متكاملة تظهر من معرفة مقصود الإسلام من «حفظ النفس»، وهو يحصل بتحقق ثلاثة معان: أولها: إقامة أصله بالتكاثر والتناسل، وثانيها: حفظ بقائه بتوفير الغذاء والشراب والرعاية الصحية، وهذا جانب داخلى للإنسان، وثالثها: توفير الملبس والمسكن، وهو أمر خارجى عنه. ثم تكتمل هذه المعانى الثلاثة بثلاثة أشياء مهمة: أولها: تأطير وجوده بالحفظ عن المحرمات كالزنا، وذلك بأن يكون على النكاح الصحيح، وثانيها: حفظ المأكل والمشرب والعلاج بأن يكون مما لا يضر أو يقتل أو يفسد، وثالثها: إقامة ما لا تقوم هذه الأمور إلا به من مراعاة الجوانب التشريعية الجنائية الخاصة بالعقوبات المقررة على النفس من قصاص وديات، وكذا لا يمكن المحافظة على النفس البشرية إلا بالاهتمام بالتعليم والفن والثقافة على ذات قدر الاهتمام بالمتطلبات المادية، من الغذاء والمسكن والرعاية الصحية ونحو ذلك. إن نظر الإسلام للحياة البشرية يتلخص فى أنها هبة من الله تعالى للإنسان، وأن حريته محلها فى استعماله لتلك الحياة، فهو يملك كامل الحرية فى خياراته التى يتخذها حال كونه «حيًّا»، ويتحمل عواقب تلك الخيارات التى اتخذها بكامل إرادته وحريته، أما «حياته» فليست داخلة فى نطاق اختياره، فهو لا يملك الحق فى إنهائها، ولا يملك الحق فى تعاطى ما يفسدها ويضرها من الأسباب والتصرفات؛ لأنها ليست ملكه، بل ملك لخالقها، مستودعة فى جسد الإنسان ليقوم بواجبه فى عمارة الكون وإقامة الحياة. ولا شكَّ أن التجارب الإنسانية عملت على تحقيق تلك العملية الرقابية وتفعيل دور «الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر»، من خلال سلسلة من الأجهزة الرقابية التى يتم هيكلتها وبيان لوائحها واختصاصاتها بشكل يساعد على تفعيل دورها فى المجتمع، وتحقيق الغايات التى أنشئت من أجلها. فعلى جانب الغذاء والشراب والملابس والسكن والعلاج والرعاية الصحية: تؤدى الأجهزة الرقابية المعنية بهذا الجانب دورها الذى يبتغى منه ضمان حصول كل فرد من أفراد المجتمع على هذه الأمور بصورة سليمة، مع قيام المؤسسات العامة والخاصة بالدور المنوط بها من «الأوامر والنواهى التشريعية»، التى تضبط السوق على وجه يضمن توفير هذه الخدمات وتلك الرعاية على نحو يحقق مستوى لائقا بالمواطن. وتمتد الرعاية الصحية للإنسان بصرف الجهود إلى الرعاية البيطرية أيضًا؛ لأن صحة الإنسان قد ترتبط بشكل أو بآخر بصحة الحيوان، ولذلك فإن الرقابة على الرعاية الصحية البيطرية لها دور كبير فى الحفاظ على الصحة العامة للإنسان. أما على جانب التعليم والثقافة، تقوم المؤسسات التعليمية والتثقيفية بتطبيق السياسات التى تضعها الدولة للملف التعليمى والتثقيفى، وتقوم الأجهزة الرقابية بمراقبة مدى التزام تلك المؤسسات بالخطط الموضوعة، ومثل ذلك يكون فى جانب التشريعات والأحكام القضائية، وكل هذه المجالات مقصود الشرع الشريف من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فيها هو الرقابة عليها، وضمان تحقيق المؤسسات المعنية لمجموعة الأوامر والنواهى تلك الأمور، التى من المفترض أن تحقق الصالح العام لأفراد المجتمع. وبهذه المعانى تظهر سمات ودور مبدأ «الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر» فى تحقيق مقصد «حفظ النفس»، فهو يعمل كأداة رقابية ووقائية تسهم فى تحقيق القدر الأكبر من النجاح للمنظومة التشريعية المتكاملة.