د. عبد المنعم سعيد قد يكون مستغربا أن نتحدث عن مولد جديد للدولة الوطنية العربية ، ومحمل بالآلام القاسية أيضا، بعد عقود من الاستقلال وتمثيل السيادة تصويتا وموقفا فى المنتديات الدولية؛ وحتى بعد خوض حروب دفاعا عن الدولة، وأحيانا الأمة العربية كذلك. ولكن ربما كان المستغرب هو حالة الاستغراب التى ألمت بالعالم العربى والعالم أيضا من الانفجار الذى جرى فى مرفأ بيروت قبل أسبوع، وجاء على شكل المشروم النووى والذى صادف ذكرى مرور 75 عاما على إلقاء أول قنبلة ذرية على هيروشيما. جاء الدخان الأبيض أولا، ومن بعده الأسود الكثيف، وما تلاه كان نارا حمراء وبرتقالية، ولم تمر دقائق إلا وكان مشهد نصف بيروت مماثلا لما كانت عليه المدينة اليابانية والذى شاهدته من قبل فى متحفها مرتين. أعداد القتلى بعد ذلك والجرحى، والدماء السائلة على الأجساد وفى الطرق، ومدى التدمير فى الميناء المتوقف عن العمل؛ كلها تقلصات لعملية تاريخية تبدو فى أقسى حالاتها، لأنها فى ألمها تبدو بلانهاية ولكنها ربما تقودنا إلى مولد الدولة الوطنية فى لبنان. لم يحدث من قبل أن ولدت دولة وطنية حقة إلا بعد مخاض ثوري، أو حروب أهلية، أو آلام بلا حد شجعت جماعة مبعثرة على الانتماء لهدف الإنقاذ المشترك تحت مظلة وطنية. لم تولد إنجلترا إلا بعد الحرب الأهلية التى أشعلها كرومويل، ولا كانت فرنسا فرنسية إلا بعد الثورة العظمي، وأخذت مصر قرنا كاملا من حروب محمد على حتى ثورة 1919 لكى تولد الدولة الوطنية المصرية بعد انقطاع دام ثلاثة آلاف عام. لبنان كانت أعجوبة عربية تجمعت فيها طوائف متعددة جمعتها الموسيقى والخوف من الحرب الأهلية التى أتتها مرتين فى التاريخ المعاصر كانت الأولى عام 1958، والثانية استمرت 16 عاما من 1974 إلى 1990. وفى وقت من الأوقات قيل إن سر قوة لبنان فى ضعفه لأن الضعف لم يكن يورطه فى الصراع العربى الإسرائيلي؛ وأذكر أن الصديق القديم غسان سلامة قال لى بعد الغزو الأمريكى للعراق إن العرب كثيرا ما انتقدوا النظام الطائفى فى لبنان؛ وهاهم لا يجدون غيره للتطبيق فى بغداد؟! لم تكن لبنان وحدها التى يضرب بها المثل فى الدولة الطائفية ؛ ولا باتت العراق هى المثال الذى تبع الأصل، وإنما كانت الطائفية موجودة فى بلاد عربية أخرى أخذت أشكالا مثل حماس وفتح فى فلسطين، والحوثيين والآخرين فى اليمن. وذات يوم ذكر لى قبل عقود السفير تحسين بشير رحمه الله أن كثيرا من الدول العربية ما هى إلا قبائل فوقها أعلام. ما جمع بعضا من هذه الدول فى الشكل أنها لم تقبل واحدا من أهم شروط الدولة الوطنية فى العالم، وهى احتكار الدولة للاستخدام الشرعى للسلاح، وفى فلسطين كانت حماس، وفى لبنان كان حزب الله ينازع سلطة الدولة تحت رداء المقاومة التى كانت تحارب إسرائيل وتهدم الدولة التى تعاديها فى الوقت نفسه. فى العراق حمل الجميع السلاح حتى لا تحتكره الدولة ولا فصيل آخر، وفى فترة أقام الفصيل الأكثر وحشية دولة كاملة سماها دولة الخلافة الإسلامية. وعلى مدى العقد الماضى انكشفت الدولة العربية على واقع مخيف اجتمعت فيه الطائفية مع تيارات دينية راديكالية على تدمير الدولة الوطنية التى بقيت بعد الفترة الاستعمارية وهى بلا مناعة تقريبا. لم تكن كثرة من البلدان العربية تعرف ماذا سوف تفعل بالاستقلال الذى حصلت عليه فوصلت إلى أعتاب الدول الفاشلة. ولكن الفشل كثيرا ما يكون مرحلة من مراحل بناء الدولة الوطنية، فالمعاناة التى نشاهدها اليوم فى اليمن والعراق وسوريا وفلسطينولبنان ما هى إلا حالة الانصهار لمعدن الدولة، وكان طريقا فى بلاد أخرى إلى صلابة المكون الوطني. قبل عام تقريبا جرى حراك وطنى فى أربع دول عربية: لبنانوالعراق والسودان والجزائر. لم يكن هذا الحراك مماثلا لما سمى زورا ثورات الربيع العربى التى استسلمت بسهوله لجماعات دينية فاشية. فى لبنانوالعراق كان الحراك أولا مضادا للطائفية، وثانيا للتدخل الإيرانى فى البلاد، وثالثا مناديا بالدولة الوطنية التى فيها تحتكر الدولة احتكارا كاملا حق الاستخدام الشرعى للسلاح. فى لبنانوالعراق كان ذلك ثورة على النخبة السياسية فى جميع الطوائف؛ ولسوء الحظ، والتاريخ يعرف أيضا نوبات من سوء الحظ، جاءت نوبة كورونا لكى تزيح مع الدولة كل ثورة وحراك. وما أن أخذ تاريخ البلاء دورته حتى انكشف الحال اللبنانى على إفلاس للدولة القديمة، وعجز عما أسفر عنه الإفلاس من سياسة، ثم جاء الانفجار لكى تستعيد لبنان ذكرياتها مع حزب الله وأقوال شيخه حسن نصر الله إنه سوف يستخدم صواريخه لتفجير نترات الأمونيوم فى ميناء حيفا الإسرائيلي. انفجر 2700 طن من النترات فى ميناء بيروت مخلفا وراءه مئات القتلى وآلافا من الجرحى ومئات الآلاف ممن باتوا بلا مأوي. التدافع العربى والعالمى لنجدة لبنان فيه الكثير مما يسر من تعبير عما يوجد من حب واعتزاز تجاه البلد العربى وخصائصه المتميزة، ولكن القضية ليس فقط فى تشييع جنازة من مات، وتضميد جراح من جرح، وبناء ما انهدم، وإصلاح ما انكسر، وإنما كيف ستمضى الدولة الوطنية من الآن فصاعدا، وكيف ستقوم الدولة الوطنية، وهل ستتحمل الشعوب آلام بناء دولة جديدة، ومشروع وطنى للمستقبل ليس فيه إلا الكثير من الألم والدموع؟ هناك أمثلة فى دول عربية أخرى خرجت من الجحيم بمشروع ناضج للبناء والتعمير، ومؤخرا فإن السودان والجزائر تحاولان السير فى هذا الطريق، ولا يأتى الخطر إلا من نقمة الزمن القصير الذى لا يعرف الكثيرون معه صبرا. من ظن أننا رأينا الكثير من الألم خلال العقد الماضى لا يدرك أن بناء الدول الوطنية ليس من المهام السهلة، ولكنها أيضا ليست من المهام المؤجلة لأن البديل فى أقله انفجار كالذى شاهدناه؛ وفى أكثره حروب أهلية كالتى عشنا فيها. لبنان الآن على موعد مع الاختيار، أو القدر؟!. نقلا عن صحيفة الأهرام