نشرت وزارة الخارجية التركية، يوم الثاني من يونيو الجاري بيانًا مرفقًا به خريطة تظهر "حقول تنقيب جديدة" بشرق المتوسط، والتي تقدمت أنقرة مسبقًا بطلب إلى الأممالمتحدة للحصول على رخصة التنقيب عن الطاقة فيها. يأتي التحرك التركي عقب إعلان اليونان اعتراضها عن استمرار تركيا في نشر سلسلة من الطلبات المقدمة من مؤسسة البترول التركية لمنح تصاريح الاستكشاف والاستغلال في مناطق داخل الجرف القاري لليونان بالجريدة الرسمية للحكومة التركية. وعليه، جاء البيان التركي ليؤكد أن "مناطق الترخيص الجديدة التي طلبتها شركة البترول التركية من أجل أنشطة البحث والحفر تقع داخل الجرف القاري التركي على النحو المعلن للأمم المتحدة. أعقب هذا البيان قيام المسئول عن شئون العلاقات السياسية الثنائية، والمدير العام للحدود البحرية والجوية بالخارجية التركية، "تشاغطاي أرجياس"، بنشر تغريدة عبر موقع "تويتر" أرفقها بما أرسله الجانب التركي إلى الأممالمتحدة -مسبقًا- من تعيين لحدودها البحرية، وفق اتفاقها الأخير مع حكومة الوفاق الليبية، كما أرفق في تغريدته خريطة تُظهر حقول التنقيب الجديدة، كما هو موضح أدناه. خريطة تظهر حقول التنقيب الجديدة التصعيد التركي ضد قبرص واليونان تقع المناطق التي حددتها تركيا للتنقيب عن الغاز والنفط قبالة سواحل جزر رودس وكارباثوس وكريت اليونانية. وعليه، حذر رئيس الوزراء اليوناني "كيرياكوس ميتسوتاكيس" قيادة الاتحاد الأوروبي من أن خطط تركيا لاستغلال احتياطيات الغاز الطبيعي المتنازع عليها في البحر المتوسط قد تؤدي إلى أزمة علاقات شاملة بين الاتحاد الأوروبي و تركيا . كما حذرت أثيناأنقرة من إرسال سفن للتنقيب عن الغاز الطبيعي قبالة السواحل المذكورة سلفًا، مهددة إياها بعمل عسكري إذا واصلت التنقيب عن الغاز قرب حدودها. وفي وقت سابق، أعلن وزير الطاقة التركي "فاتح دونميز" عن بدء مؤسسة البترول التركية عمليات التنقيب في مناطق شرقي المتوسط، خلال ثلاثة أو أربعة أشهر، وذلك بموجب الاتفاق الموقع مع حكومة الوفاق الليبية. يمكن القول أن التحركات التركية الاستفزازية في شرق المتوسط ليست بالأمر الجديد، خاصة مع توالي الاكتشافات الغازية بالمنطقة، وما قدرته هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية –مؤخرًا- بشأن احتواء حوض شرق البحر المتوسط ما بين 340 إلى 360 تريليون قدم مكعبة من الغاز الطبيعي، والذي تتراوح قيمته المالية ما بين 700 مليار دولار و3 تريليونات دولار. وفي هذا السياق، عمدت تركيا إلى انتهاج عمليات التصعيد بغرض فرض هيمنتها على المنطقة. ففي فبراير 2018، أوقفت البحرية التركية سفينة حفر وتنقيب تابعة لشركة "إيني" الإيطالية كانت في طريقها إلى المياه القبرصية. وفي أكتوبر 2018، أعلنت تركيا عن نشر سفن الحفر والتنقيب بمناطق جزر بحر إيجه، وفي يناير 2019، أعلنت عن أن سفينة الأبحاث " بربروسا" تجري مسوحات زلزالية داخل جزء كبير من الرف القاري التابع لليونان، والمنطقة الاقتصادية في قبرص. وفي مايو 2019، أعلنت تركيا عن بدء أعمال التنقيب عن الغاز، بإذن من جمهورية شمال قبرص التركية، بمنطقة تعد جزءً من المنطقة الاقتصادية القبرصية. وفي يوليو 2019، نشرت وزارة الدفاع التركية عبر حسابها الرسمي على موقع "تويتر"، مقطع فيديو يظهر سفينتين حربيتين ترافقان سفينة تنقيب. وفي نوفمبر 2019، وقعت تركيا على مذكرتي تفاهم مع حكومة الوفاق الليبية متضمنة لأطر التعاون الأمني والعسكري، وتحديد مناطق السيادة البحرية، وقد أثار هذا الاتفاق انتقادات دولية لاسيما من قبل الاتحاد الأوروبي، نظرًا لأن ليبيا ليست لها حدودًا بحرية مع تركيا ، علاوة على وجود اليونان وقبرص في منتصف طريق الحدود التي يحاول الاتفاق تحديدها. ونتيجة لاستمرار عمليات التنقيب والتعدي على الحدود القبرصية، لجأ الاتحاد الأوروبي إلى فرض عدد من العقوبات على أنقرة، كان من ضمنها تعليق المفاوضات بشأن اتفاق النقل الجوي الشامل مع تركيا ووقف اجتماعات مجلس الشراكة والاجتماعات رفيعة المستوى مع تركيا ، فضلًا عن الموافقة على اقتراح المفوضية بتخفيض مساعدات تركيا ، ودعوة بنك الاستثمار الأوروبي إلى مراجعة أنشطة الإقراض إلى تركيا . وفي فبراير2020، جمّد الاتحاد الأوروبي أصول مواطنين تركيين مشاركين في عمليات الحفر والتنقيب ومنعهما من دخول أراضيه. وفي منتصف مايو 2020، أدان الاتحاد الأوروبي تحركات تركيا قبالة سواحل قبرص، والتي تمثلت في قيام السفينة التركية "يافوز" بالحفر قبالة سواحل قبرص منذ نهاية أبريل الماضي. وبناءً على ما تقدم، تأتي الخطوة التركية الجديدة بنشر خريطة تنقيب جديدة بمثابة إيذانًا لتصعيد جديد في وقت يسعى العالم فيه إلى تهدئة وطأة الصراعات. دوافع التحرك يأتي التصرف التركي الأخير في ظل ما يشهده العالم أجمع من أزمة صحية جراء وباء كوفيد-19، الذي ألقى بظلاله ليس على المنظومة الصحية فحسب، وإنما أيضًا على الاقتصادات الوطنية والعالمية. كان ل تركيا نصيب من هذا التأثر، فقد توقعت الحكومة التركية نمو الناتج المحلي الإجمالي خلال عام 2020 بنسبة 5٪، ولكن في الواقع، سينكمش الاقتصاد التركي بنسبة 5٪، وذلك وفق تقديرات صندوق النقد الدولي. وبالسادس من مايو2020، انخفضت الليرة إلى أدنى مستوى مسجل مقابل الدولار عند 7.2690 ليرة، بينما بلغ معدل البطالة نحو 17.2٪. وفي هذا السياق، يمكن الإشارة إلى عدد من الدوافع وراء التحرك التركي محل نقاش هذه الورقة. يتمثل الدافع الأول في مقايضة الغرب. ففي إطار تراجع معدلات أداء الاقتصاد التركي، وما يثار من توقعات بشأن استمرار الركود لمدة سنة كاملة، ومع رفض النظام التركي اللجوء إلى دعم صندوق النقد الدولي، عوًلت تركيا على الغرب عبر مطالبتها بإنشاء خطوط مقايضة مع البنوك المركزية الأجنبية، لا سيما الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي والبنوك الأوروبية، لإنعاش الاقتصاد التركي ولتوفير سيولة دولارية. وهنا، تجدر الإشارة إلى ماشهده الخطاب التركي –مؤخرًا- من لهجة وسلوك مغاير حيال الاتحاد الأوروبي والولاياتالمتحدة. فحتى وقت قريب، اعتمد الرئيس التركي على توجيه النقد الدائم للغرب بخطاباته التي يستهدف منها تعزيز النزعة القومية التي ينجح في إطارها من اكتساب وتوطيد قاعدته الشعبية. ولكن مع ما يفرضه الوضع الراهن من احتياج للغرب، فقد عمد الرئيس التركي إلى اتباع أسلوب "تصالحي" مع الاتحاد الأوروبي، وهو ما يتجلى في رسالة الرئيس التركي الموجهة للاتحاد يوم التاسع من مايو2020 بمناسبة يوم أوروبا، والتي أشاد عبرها بما حققه الاتحاد من إنجازات، كما تناول ما قدمته تركيا من مساعدات صحية لبعض الدول الأعضاء في الاتحاد خلال وقت اشتداد الأزمة. أما بالنسبة للولايات المتحدة، فقد أرسلت تركيا مساعدات صحية إليها، إلى جانب اتخاذها قرار بتأخير تفعيل نظام الدفاع الجوي الروسي S-400، والذي كان من المقرر تفعيله بحلول نهاية أبريل 2020. ومع كل هذا التغيير، لم تظهر المؤسسات المالية الأمريكية والأوروبية أي علامات على المرونة وتصر على وجب استيفاء تركيا لمعاييرها أولًا إذا كانت ترغب في إنشاء خطوط المقايضة. وعليه، قد يأتي التصعيد التركي في إطار الرغبة نحو دفع الغرب إلى إجراء المقايضة الائتمانية. يتمثل الدافع الثاني في تشتيت انتباه الرأي العام التركي. فلطالما اعتمد الرئيس التركي سياسة افتعال أزمة خارجية بغرض إما رفع شعبيته الداخلية أو لصرف الانتباه عن أزمات الداخل. تشير التقارير الصحفية والحقوقية إلى استخدام الرئيس التركي ما فرضته أزمة كوفيد 19 من طوارئ صحية لتعزيز صورته الشعبية ولتضييق المجال على المعارضة. ووفقًا لاستطلاعات "متروبول"، وصلت شعبية الرئيس التركي في فبراير 2020 إلى أدنى مستوى لها منذ أزمة العملة في أغسطس 2018 بنسبة 41.1٪. ومع ذلك، ارتفعت هذه النسبة إلى 55.8٪ في الشهر التالي، وهو الشهر الأول من الوباء، ثم انخفضت النسبة في الشهر التالي عندما بدأ المواطنون الشعور بالآثار الاقتصادية. وإلى جانب تراجع الشعبية، استمر النظام التركي في تحجيم المعارضة وحرية الصحافة، وهو ما تجلى في إجراء اعتقالات للصحفيين، وإقالة العديد رؤساء البلديات المنتخبين من حزب الشعوب الديمقراطي المؤيد للأكراد بتهمة دعم الإرهاب، وتعيين آخرين موالين للحزب الحاكم. ينصرف الدافع الثالث إلى رغبة تركيا في فرض سياسة الأمر الواقع. ففي ظل ما تعيشه من حالة عزلة بالإقليم، وفقر غازي، ارتأت تركيا إلى اتباع سياسة الأمر الواقع بغرض كسر حالة العزلة وتوسيع دائرة البحث عن الغاز. لقد مثّل إنشاء منتدى غاز شرق المتوسط اللبنة الأولى في خطوات التحييد التركي، أعقب ذلك الاتفاق الثلاثي ما بين قبرص واليونان وإسرائيل بشأن إنشاء خطوط أنابيب خط غاز "إيست ميد"، تلى ذلك ما أقره الكونجرس الأمريكي من قانون "شراكة الأمن والطاقة في شرق المتوسط لعام 2019" والذي ينص على تقديم مساعدات مالية وعسكرية لكلًا من قبرص واليونان، وإنشاء مركز للطاقة لتعزيز التعاون بين الولاياتالمتحدة وإسرائيل واليونان وقبرص، وعرقلة إتمام نقل طائرات F-35إلى تركيا ، طالما استمرت الأخيرة في خططها لشراء نظامS-400 . وأخيرًا، كان "إعلان القاهرة" الذي لاقي ترحيب وتأييد دولي على نطاق واسع وهو الأمر الذي قد يمثل تهديدًا لمستقبل التواجد التركي بمسار الأزمة الليبية. ينبع التدخل التركي بالأزمة الليبية من الرغبة التركية في فرض الشرعية والاعتراف الدولي إزاء تحركاتها بمنطقة شرق المتوسط وذلك من خلال علاقاتها ودعمها لحكومة الوفاق الليبية، كذلك ارتأت تركيا في أن تكون لها سيطرة على معبر ثانٍ للمهاجرين عبر ليبيا بما يمنحها مساحة مناسبة للحركة والتأثير على الاتحاد الأوروبي. وكما هو ممارس بالأزمة السورية، تسعى تركيا من تدخلها وتواجدها العسكري في ليبيا إلى فرض أجندتها الأيديولوجية، فضلًا عن دعم اقتصادها من خلال حجز مقعد بمشاريع إعادة الإعمار، علاوة على بسط السيطرة على آبار النفط والغاز. يستدل على ذلك ما صرح به الرئيس التركي بأن "العمليات العسكرية في مدينة سرت الليبية مهمة وحساسة، بسبب وجود آبار النفط والغاز، وإن قوات بلاده تسعى للسيطرة على مدينتي سرت والجُفرة الليبيتين". إجمالًا، يعتبر النشر التركي لخريطة حقول تنقيب جديدة بمثابة محاولة من قبل تركيا نحو تأكيد تموضعها ونفوذها بالمنطقة، ولكن من المتوقع أن تشهد الأيام المقبلة تصاعدًا للتوترات والمناوشات خاصة عقب توقيع كلًا من اليونان وإيطاليا على اتفاق بشأن تعيين الحدود البحرية بينهما امتدادًا لاتفاق عام 1977 بشأن الجرف القاري، والذي يضمن بأن يكون للجزر الحق في مناطق بحرية خالصة على النحو المحدد في قانون البحار الدولي. وعليه، فإن هذا الاتفاق يدحض أي ادعاءات تركية بالسيادة على مناطق تابعة بالأساس إلى السيادة اليونانية أو القبرصية. ويتبقى في النهاية، مراقبة مدى قدرة الاقتصاد التركي على الاستمرار والاضطلاع بمهامه في ظل ما يمارسه النظام التركي من سياسات خارجية توسعية. نوران عوضين الباحثة بالمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية ** نقلا عن المركز المصري للفكر والدراسات الإستراتيجية