يمثل الكاتب والمفكر د. جلال أمين مرجعًا للباحثين في التطورات التي شهدها المجتمع المصري على المستويين الاقتصادي والاجتماعي، حيث قدم خلال عقود كتابات حاولت أن تؤرخ للاقتصاد المصري من جهة، وما شهده من تطور لوسائل الإنتاج وتغيرات في سياسات الدولة الاقتصادية، والمجتمع المصري والتحولات التي طرأت على طبقاته المختلفة، وعملية تبادل المواقع بين المنتمين لكل طبقة، وأثر ذلك على المستوى السلوكي والثقافي، من جهة أخرى. كان أمين قد فاز، اليوم الأربعاء، بجائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب في مجال الدراسات الاقتصادية. في كتابه "قصة الاقتصاد المصري" قدم د. جلال أمين تأريخًا للاقتصاد المصري بدءً من عهد محمد علي حتى عهد الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك، وما بينهما من حكام تغيرت في عهدهم السياسات الاقتصادية بشكل كبير. ويركز أمين في هذا الكتاب على عدة محاور، يبدو من أهمها علاقة مصر بالقوى العظمى، هذه العلاقة القائمة بشكل كبير على أسس اقتصادية، وما يتبع ذلك من مشروعات على مستوى البنية التحتية وتوجهات اقتصادية، ومن ديون بالضرورة. وبجانب التأريخ الاقتصادي انشغل أمين بتأريخ اجتماعي، كما في كتابه "ماذا حدث للمصريين"، راقب فيه التحولات الطبقية داخل المجتمع المصري، مركزًا بشكل كبير على الطبقة الوسطى والاتساع الذي شهدته عقب الإصلاحات الاقتصادية التي تمت في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، والتغيرات القوية التي طرأت عليها خلال فترة الانفتاح في عهد الرئيس الراحل أنور السادات، ثم الهزات التي شهدتها خلال الأزمات الاقتصادية ومشكلات التضخم خلال الثلاثين عامًا الماضية، وما نتج عن هذه الآثار الاقتصادية من آثار اجتماعية تبدت في السلوكيات والقيم الاجتماعية والأخلاقية. خلال السنوات الأخيرة انشغل أمين في كتاباته، ومن بينها مقاله الثابت بصحيفة "الأهرام" بالتغيرات التي شهدها المجتمع المصري – وعلى رأسه الطبقة الوسطى- على أثر التغيرات التي شهدها العالم بعد توسع العولمة والتطور التكنولوجي الكبير. ينشغل المجتمع المصري الآن بما طرأ من تحولات في "أخلاقيات" المصريين وقيمهم في السنوات الأخيرة، وكذلك انشغل أمين، الذي لا يميل إلى القول بأن "أخلاق المصريين قد تغيرت. ويعقد أمين مقارنة بين الطبقة الوسطى في الفترة الحالية وبينها قبل ستين عامًا، من خلال ذوق كل منها فيا يتلقاه من فنون وآداب، وفي سلوكياته الشخصية. ويرى صاحب "التنوير الزائف" أنه من الممكن أن نفسر هذا السلوك الرائع الذي ساد بين أفراد الطبقة الوسطى بنوع التعليم ومستواه، ولكني أميل إلى أن أعلق أهمية أكبر على ما كانت الطبقة الوسطى في مصر تشعر به طوال النصف الأول من القرن من استقرار وثقة بنفسها وبمستقبلها. لم يكن أفرادها يشعرون بأنهم مهددون بفقدان مركزهم الاجتماعي (الذي حققوه بوسيلة لا يمكن سلبها منهم، وهي التعليم) ولا بأن هناك من ينافسهم مراكزهم ممن لم يحققوا القدر الكافي من التعليم من الصاعدين حديثًا من الطبقة الدنيا، ناهيك بخطر التضخم الجامح، هذا الشعور بالاستقرار والثقة جعلهم في غير حاجة إلى تأكيد تميزهم أو ادعاء تفوقهم على من يدينون بغير دينهم، فلما جاء النصف الثاني من القرن بعوامل جديدة كثيرة تهز هذا الاستقرار وهذه الثقة بالنفس، بدأنا نشاهد مختلف الأمثلة على التعالي على الآخرين وإساءة معاملتهم". ويرجع أمين هذه التغيرات التي طرأت على سلوكيات المجتمع إلى ما يراه بأن أساس الطبقة قبل نحو 60 عامًا لم يكن يتحدد بمحجم الدخل فقط، وإنما بمصدر هذا الدخل، وهو ما يتحدد على أساسه الطبقة وسلوكيات أفرادها، بل ومظهرهم، حسب أمين. "أما الآن فمصدر الدخل لم يعد له الدرجة نفسها من الأهمية التي أصبحت لحجم الدخل. ويظهر أن التحايل في الملابس لإخفاء حجم الدخل أسهل من التحايل لإخفاء مصدره". وخلال هذه الدراسة المستمرة للمجتمع المصري يلقي أمين الضوء على مظاهر التحول الاجتماعي على مستويات عدة، من بينها: الملابس، طرق التنقل، وسائل التواصل بين البشر، الطعام، وأنماط الاستهلاك المختلفة. ولم يفت د.جلال أمين أن يدلي بدلوه في الظروف الاقتصادية التي تعيشها مصر حاليًا، والتي تشهد اختلافًا كبيرًا بين المحللين الاقتصاديين حول أسبابها ووسائل تجاوزها. ويرى أمين أن "مشكلات الاقتصاد المصري ليست اقتصادية" مرجعًا ما يشهده الاقتصاد المصري الآن من مشكلات لا يرجع في المقام الأول إلى أسباب وظروف اقتصادية وإنما أمنية وسياسية. "يستخلص من ذلك أن مشكلاتنا الاقتصادية الأساسية الآن (ارتفاع الأسعار، ندرة بعض السلع الضرورية، استمرار معدل بطالة مرتفع) ترجع إلى أسباب سياسية أكثر منها إلى أسباب اقتصادية". ويرى صاحب "عصر الجماهير الغفيرة" أن "التخريب المتعمد" هو أحد أهم هذه الأسباب، حيث "من المهم إذن أن نتساءل عما إذا كانت ظاهرة الإرهاب (وعدم استقرارنا السياسي) ترجع إلى عوامل داخلية أو خارجية، بل وأيضًا عما إذا كان الهدف من الأعمال الإرهابية (سواء كان المصدر داخليًا أو خارجيًا) يتضمن هدف تخريب الاقتصاد، بإشاعة جو من الإحباط والخوف يضعف من الحافز على الاستثمار. إني أميل بشدة إلى تغليب هذا العامل الأخير، أي أن ممارسة الإرهاب ترجع أساسًا إلى رغبة (لدى طرف خارجي في الأساس ولكن يعاونه بلا شك أطراف في الداخل)، في إشاعة مناخ سلبي يقلل من الاستقرار السياسي، ويزيد التدهور الاقتصادي في الوقت نفسه".