الإمام الراحل الدكتور محمد سيد طنطاوي، الشيخ السابع والأربعين للمؤسسة السنية الأولي في العالم، وهي الأزهر الشريف، خلفًا لفضيلة الإمام جاد الحق علي جاد الحق، الذي وُري الثرى بداية عام 1996، ليرتدي عباءة إمام المسلمين وشيخهم بعده الشيخ "طنطاوي"، الذي عاش عالمًا جليلًا وفقيهًا مُحدثًا، يتلقي سهام النقد التي اعتاد عليها مذ وطئت قدماه رأس المشيخة، بالتحابب ورد الفكر بالفكر والرأي بالرأي، فكان خير خلف لخير سلف. ظل طوال 14 عامًا علي رأس المؤسسة الدينية الأكبر عالميًا، من عام 1996 حتى عام 2010، اصطدم بكثير من الجماعات الدينية المتشددة خلالها، بسبب فتاواه التي رأي أولئك بأنها خروج عن صحيح الدين، أو بالأحري مخالف لما اتفق عليه السلف الصالح، فيما كان كبار العلماء ومجمع البحوث الإسلامية مساندًا له وبقوة في جل ما يقول. للإمام الراحل أكثر من 20 مؤلفًا في التفسير والفقه والعقيدة، تناول خلالها الكثير من الموضوعات الشرعية والمباحث الدينية، وعالج فيها قضايا عصرية، مثل قضايا تنظيم الأسرة ووضع المرأة في الإسلام، كما سلط الضوء علي حرب الخليج، وبالرغم من موسوعيته العلمية، إلا أنه كان يتهم بأشد الاتهامات، وينكل به، وأمام كل هذه التجاوزات بحق شيخ الإسلام، كان إما الصمت تجاهها هو واقع الحال، أو الرد عليها بالعلم والفكر. من بين أبرز مؤلفاته يأتي "التفسير الوسيط للقرآن الكريم"، والذي يقع في أكثر من خمسة عشر مجلدًا، وفي أكثر من سبعة آلاف صفحة، كذلك تناول قصة "بنو إسرائيل في القرآن الكريم"، وتطرق إلي الموضوع الشائك وقتها "تعاملات البنوك أحكامها الشرعية"، والذي واجه خلالها انتقادات لاذعة من بعض التابعين للدعوة السلفية وجماعة الإخوان، بعد أن رأي أن فوائد البنوك حلال شرعًا. "الحكم الشرعي في أحداث الخليج" كان بحثًا كتبه الإمام في أعقاب حرب الخليج سنة 1990 م، التي دارت رحاها بعد الغزو العراقي للكويت، ولم ينسلخ الإمام عن واقع المجتمع الذي يعيش فيه، بل تطرق لأهم الموضوعات التي كانت تناقش وقتها، وكانت علي أشدها علي الإطلاق، ومنها تنظيم الأسرة، ورأى الدين فيه، ساق سبع حقائق تتعلق بهذا الموضوع، ثم قدم بحثًا طويلًا يتحدث فيه عن وضع المرأة في الإسلام -بالمشاركة- وفيه بين وجوه المساواة بين الرجال والنساء، ووجوه الاختلاف فيما يتعلق بالخصائص التي منحها الله تعالى لكل فريق منهم. من بين أبرز المواقف التي انتقد فيها الإمام الراحل، مصافحته للرئيس الإسرائيلي، شمعون بيريز، علي خلفية حضوره مؤتمر حوار الأديان، الذي نظمته الأممالمتحدة والسعودية، في 12 نوفمبر 2008، وقد حدثت مُسائلة برلمانية بعد هذا الموقف، وطالبه نواب بالاعتذار، فيما طالب البعض الآخر بعزله، وكتب بعض الصحفيين "لا تصافح" علي خلفية قصيدة الشاعر الراحل أمل دنقل "لا تصالح". كما أن معارضة الإمام الراحل للنقاب بالمعاهد الأزهرية، واجهت سهامًا من النقد، لاسيما من أنصار السلفيين، إلا أن مجمع البحوث الإسلامية ساند شيخ الأزهر في موقفه، وأيده رسميًا في قرار حظر النقاب داخل فصول المعاهد الأزهرية، وقاعات الامتحانات، والمدن الجامعية التابعة للأزهر. ساند الإمام طنطاوي الكثير من القضايا المجتمعية، ووقف مساندًا لقضايا المرأة في المجتمع، وأحقيتها في العمل، وتحدث عن ظاهرة نقل الأعضاء البشرية محرمًا بيعها، وإن ساند التبرع بها حفاظًا علي حياة آخرين. سطور في حياة الإمام: بدت حياة الإمام الراحل، الدكتور محمد سيد طنطاوي، مليئة بالجد والاجتهاد والمثابرة علي تلقي العلم الديني، حتى حصل علي أعلي شهادة علمية معروفة "درجة الدكتوراه"، وتدريجيًا، ثابر في تدريس العلم أكاديميًا في عدد من الكليات المصرية والعربية. حيث ولد الدكتور محمد سيد طنطاوي يوم 28 أكتوبر لعام 1928م، في قرية سليم الشرقية بمحافظة سوهاج، تعلم وحفظ القرآن في الإسكندرية، ثم حصل على الليسانس من كلية أصول الدين بجامعة الأزهر عام 1958م، وعمل كمدرس بها عام 1968 عقب حصوله على درجة الدكتوراه في الحديث والتفسير عام 1966م، ثم تدرج فى عدد من المناصب الأكاديمية بكلية أصول الدين في أسيوط، حتى انتدب للتدريس في ليبيا لمدة 4 سنوات. وفى عام 1980م، انتقل إلى السعودية للعمل رئيسا لقسم التفسير فى كلية الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية، إلى جانب العمل الأكاديمي، تولى الكثير من المناصب القيادية في المؤسسة السنية الأولى في العالم، كما عُين مفتيًا للديار المصرية في 28 أكتوبر 1986م، حتى تم تعيينه في 27 مارس 1996م شيخًا للأزهر. وكان الدكتور محمد سيد طنطاوي، أول جامعي يتولي هذا المنصب الرفيع، فكل من سبقوه من المفتين قبله، وكل المفتين ومشايخ الأزهر قبله، كان يشترط تدرجهم في سلك القضاء الشرعي. قصة وفاته كان لوفاته قصة عظيمة، يحكيها نجله الأصغر، المستشار عمرو محمد سيد طنطاوي، القاضي بمحكمة استئناف القاهرة، حيث أبرز في معرض حديثه عن هذه القصة، أمنيات والده بأن يدفن في البقيع، قبل أن تصعد روحه بأشهر قليلة، حيث يقول: كان والدي في زيارة للمدينة المنورة، بعد أداء مناسك الحج عام 2009، حيث ذهب على نفقته الخاصة كعادته في حج القرعة، وكان أنس الكتبي، نقيب أشراف المدينة بصحبته، فطلب منه التوقف بجوار سور مقابر البقيع، ونزل ووقف بجانب السور، وسلم على أهل البقيع، ودعا الله تعالى أن يرزقه اللحاق بهم، والدفن بجوارهم، وبالفعل لم تنقض بضعة أشهر حتى دفن بجوار الصحابة، الذين عهد على نفسه الدفاع عنهم. وفى ال10 من مارس لعام 2010، توفى الإمام الراحل عن عمر ناهز ال81 عامًا، إثر نوبة قلبية تعرض لها في مطار الملك خالد الدولي بالسعودية، في أثناء عودته من مؤتمر دولي، لمنح جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام للفائزين بها، وبناءً علي رغبته ووصيته لأولاده، دفن الإمام بالبقيع بجوار صحابة رسول الله.