على كثرة الأعمال التي ظهرت عن ثورة 25 يناير في سوق الكتابة والنشر، إلا أن أعمالا قليلة تستحق أن توضع في مصاف الأدب الرفيع، والقليل من هذه الكتب الذي يمثل رصدا فنيا لما جرى خلال أحداث الثورة، ومن بين هذه الأعمال رواية "أجندة سيد الأهل" التي أصدرتها دار العين مؤخرا للكاتب أحمد صبري أبو الفتوح الذي فاجأ قراء الأدب المصري قبل عامين بروايته الفاتنة "ملحمة السراسوة" التي نالت العام الماضي جائزة ساويرس لكبار الكتاب. وعلى خلاف السراسوة التي صدرت في ثلاثة أجزاء تذهب "أجندة سيد الأهل" أبعد من هموم الكاتب الذاتية وتاريخ عائلته الذي يغطي السرد الروائي في الملحمة وتمضي باتجاه رؤية عميقة لما جرى في ثورة 25 يناير في أيامها الأولى التي امتلأت بحكايات لا تزال قادرة على إثارة الدهشة. هنا حوار مع الكاتب عن روايته الجديدة وصلتها بعالمه الفني، وقبل هذا العمل نشر أبوالفتوح ثلاث روايات هي "طائر الشوك، جمهورية الأرضين، السراسوة، ومجموعة قصصية بعنوان وفاة المعلم حنا. الكاتب الروائي أحمد صبري أبوالفتوح، في حواره مع بوابة الأهرام يتحدث عن روايته "أجندة سيد الأهل". بوابة الأهرام: لماذا كانت المغامرة بالكتابة عن حدث في طور التشكل مثل الثورة وهو حدث يتجنب الأدباء عادة التورط في رصده ؟ - الكتابة فى حد ذاتها مغامرة، والكتابة عن ثورة 25 يناير مغامرة محسوبة، فقبل الثورة وحولها وخلالها آلاف القصص والحكايات، ويستطيع الكاتب أن ينفذ من خلالها إلى شىء من اليقين بأنه لا شىء يذهب سدى، فأنت تسلط الضوء على شخص وتكتشف أنه يعيش بيننا بشحمه ولحمه، وتكاد تشعر به وهو يعانى، وترصد أزمته، من قال إن المغامرة شىء مرعب وفقط؟!، إنها إلى جانب ذلك ممتعة، وأنا كتبت لأن هاتف الكتابة نادانى، ولم أكن أملك إلا أن ألبى. بوابة الأهرام: بعض الكتاب فضل اللجوء لكتابة يوميات عن الثورة بينما غامرت أنت بكتابة نص روائي مكتمل الأركان؟ ربما لأنى كنت طوال الوقت أفكر فى الأمر بطريقة روائية، وقد يفكر آخرون بطريقة واقعية، ولا يستدرجون الحدث المعاش إلى منطقة التجهيز الروائى التى تقبع فى غور سحيق لدى الكاتب، وربما فعلوا ذلك انتهازا لفرصة أكثر ملاءمة، على كل فإن كل شىء كان يجرى من حولى وأنا أشارك فى فعاليات الثورة كان يجد طريقه إلى تلك المنطقة، فكأنى كنت ولا أزال أعيش حلما، أو كأننى طفل أمام صندوق الدنيا، ولهذا خرجت رواية سيد الأهل مرتبطة بالحدث الضخم، الثورة الرائعة، ومتجاوبة مع الكائن الأعظم، الإنسان، حتى فى أصعب أوقاته. بوابة الأهرام: الى أي مدى أفادتك خبرتك القانونية كوكيل للنائب العام أو محام في رسم شخوصك الروائية وتحريكها في فضاء يرتبط بأقسام الشرطة وما يدور فيها؟. - بالقطع أفادنى ذلك كثيرًا، فأنا لست فى حاجة إلى بذل أى جهد فى معرفة مراحل التقاضى وإجراءاتها، وأيضا تشكيلات الشرطة وإداراتها النوعية والمتخصصة، وتسلسل قياداتها، وهو الأمر الذى قد يغمض على الكثيرين. بوابة الأهرام: عند كتابة عمل روائي بهذا الزخم عادة ما يتورط الكاتب في إعلان انحيازه لشخصية بطله الروائي بينما فضلت أن تبقي على مسافة واحدة من جميع الشخوص لماذا؟.. كأنك تؤكد بطريقة ما أن الحاكم والمحكوم نتيجة لمجتمع المقموعين؟. هذا صحيح.. ثم إنى مسكون بهاجس يؤرقنى طوال الوقت، ألا وهو الإخفاق فى الوصول إلى عمق الشخصية التى أكتبها، دائما يصيبنى الخوف إلى درجة الوسواس، لذا فإننى كثيرا ما أضبط نفسى متلبسا بتعمد الابتعاد عن الشخصية بمسافة تسمح برؤيتها بأبعادها الكاملة، حدث هذا إلى حد ما فى السراسوة، وحدث أيضا فى أجندة سيد الأهل، وعندما أميل إلى الشخصية وأقترب منها إلى حد الخطر أجدنى أقترب من خصمها، بالطريقة نفسها، إنها مسألة ليست متعمدة، ولكنها جزء من تكوين الكاتب، وفى سيد الأهل بالذات، كنت حريصا دون تخطيط مسبق على أن أقول إن المجتمع الذى يفتقر إلى الأمل واليقين ينتج ضحاياه ومجرميه بنفس الآلية، آلية اليأس وفقدان الطريق، إنه يكون أشبه بمريض مصاب بانسداد الأوعية الدموية، بلا أمل فى النجاة. بوابة الأهرام: في الرواية أيضا نفس ملمحي يكاد يقارب النفس الموجود في روايتك الكبرى " ملحمة السراسوة " هل تعتقد أن هذا النفس سيبقى سمة رئيسية في أعمالك ؟ -النفس الروائى فى رأيى هو فى الحقيقة نفس ملحمى، إنه يختلف عن النفس فى القصة القصيرة أو حتى القصة الطويلة، ولا شأن لكبر حجم الرواية أو صغرها فى وجود هذا النفس، فرواية ليس لدى الكولونيل من يكاتبه لماركيز بضع صحائف، لكن النفس فيها ملحمى بامتياز، ذلك أن الصراع الذى هو لب الملاحم هو لب الدراما أيضا، فإذا أمعنت النظر فى أزمة الإنسان المعاصر، ستجد أن أزمته الحقيقية هى ضعفه وفرديته فى مواجهة جبروت آلة الدولة، إنك إذ تقترب من هذه الحقيقة وأنت تكتب الشخصية تكون من حيث تدرى أو لا تدرى ذا نفس ملحمى، لأنك تضع البطل فى مواجهة قوة قاهرة، كأنها القدر، لذا فإن النفس الملحمى الذى تراه هو فى الحقيقة نفس روائى يضع فى حسبانه أزمة الإنسان المعاصر. بوابة الأهرام: تجنبت في الرواية التعامل مع اللغة بالشعرية التي كانت تميز لغتك في "السراسوة " وذهبت الى اللغة الخبرية التقريرية الكاشفة التي تنقل معلومة، هل هذا الخيار مصدره رغبتك في ملاحقة الحدث وتقرير مصير الأبطال ؟ نعم، ولسبب آخر، فأنا هنا أتحدث عن أناس يعيشون بيننا، أبعادهم التاريخية متضمنة فى أشخاصهم الحاضرة، فى السراسوة كانوا يتحركون فى فضاء أشبه بالحلم، وأماكن أقرب إلى التقديس، أما فى أجندة سيد الأهل فإنهم يتحركون أمام أعيننا، على أرض نحن واقفون عليها، ونحن لا نتحدث مع الحدث الحال بلغة شعرية، يهمنا الحدث، وكيف ننقله إلى المتلقى، عبر لغة بسيطة، وتقريرية نوعا، والشىء الغريب أننى لم أكتب جملة شاعرية واحدة إلا عندما اقتربت من صفية الغمرينى، ربما لأننى أردت أن أصنع منها حلما وأملا. بوابة الأهرام: هل الرواية عن الثورة أم عن الأوضاع التي أدت إليها ؟ هى عن الثورة وعن الأوضاع التى قادت إليها، لذا اخترت أن أكتب عن يوم أو جزء من اليوم، وأردفه بشخصية وكيف قادت الأوضاع إلى تشكيلها على النحو الشائك التى هى عليه، فماذا تسمى هذا، إنه شىء عن الثورة، وعن الأوضاع التى قادت إليها. بوابة الأهرام: في الرواية أيضا تقدير لمكانة المرأة، رغم وجود نماذج فاسدة الا أن النموذج الأرقى في الرواية يبقى للمرأة وهي أيضا سمه بارزة في السراسوة؟. - لا أعرف كيف أجيبك.. فقط أنا أحب أمى، وأحب جدتى، وأحب عمتى، وأحب أخواتى البنات اللائى تربيت فى كنفهن، ورأيت كفاح كل هؤلاء، وجمالهن الداخلى قبل الخارجى، لذا فإننى أكتب عن المرأة كما ترى، رأيتنى أكتب ثريا الداهش فى طائر الشوك، بأزمة مختلفة وعقدة مغايرة، ولكن بحب، حتى ابنة الدكتاتور فى جمهورية الأرضين، رصدت تهتكها، ورصدت أيضا تبعثر أبنائها فى أصقاع الأرض، وحياتها الخاوية كبناء ينقض، وقد كان أستاذى نجيب محفوظ مصابا بنفس مرضى، وأستاذى ماركيز أيضا. بوابة الأهرام: المعمار الموجود في الرواية وتكنيك السرد المتوزاي يشير بلا مواربة الى انتمائك الفني لمدرسة السرد المحفوظي، لماذا اللجوء لهذا الخيار المعقد؟. - أنا أطلب الإنصاف، فتكنيك السرد فى الأجندة مختلف عن تكنيك محفوظ، فى الوظيفة والغرض، هناك فى أعمال محفوظ الوسطى والأخيرة تكنيك السرد عبر أشخاص بأسمائهم، بترتيب أبجدى أو بشخصيات تعيش حكايات متقاطعة ومتكاملة، تكنيك فيه ابتكار ونزق، نزق المبدع الذى يمتلك أدواته ويستخدمها باقتدار، كلاعب الكرة الذى يلعب الكرة برأسه وقدمه وفخذه وكتفه دون أن تقع على الأرض، ثم يسجل هدفا، فهو لا يستعرض وفقط، اقتدار وتمكن، ومهارة تشعر القارئ بسحر الفن، وسحر تكنيك السرد أيضا، وأنا فى الأجندة لم أكن أمارس النزق، وإن كنت أمارس الابتكار، ألجأتنى إليه رغبتى فى الحديث عن وقائع بعينها فى الثورة، وضرورة إلقاء الضوء على هؤلاء الذين لا نعرف عنهم الكثير، كيف ومتى وأين نشأت لديهم تلك النفوس المحطمة، وعلى كل فأنا من قمة رأسى إلى أخمص قدمى أدين أول ما أدين إلى أستاذى نجيب محفوظ، الذى سلبنى الرشد وأنا صبى ووضع قدمى على طريق لم أتمكن أبدا من العودة عنه. بوابة الأهرام :- هل ترى أن الرواية تكريس لمكانة أدبية تحققت لك بفوزك بجائزة ساويرس العام الماضي لكبار الكتاب على الرغم من كونك قادم من خارج الخريطة الأدبية المعروفة؟. ما تسميه بالخريطة الأدبية المعروفة هو صناعة إعلامية ونقدية، ربما تتفق معى أن الإعلام فى الخمس والثلاثين عامًا الماضية كان يفتقر إلى النزاهة والكفاءة، وافتقاره للنزاهة دفع فى اتجاه شخصنة الأدب، وافتقاره إلى الكفاءة قاده إلى الاستسهال واتباع التقسيمات الجاهزة، التى يعتمدها النقاد والمتنقدون، وربما توافقنى الرأى فى أن الشللية النقدية قادت إلى إقرار خريطة أدبية بائسة، ودفع بها إلى الإعلام ليتبناها، وبما أننى أتحدث إلى واحد من أهم الكتاب فى جيله فإن ما أقوله ينبغى أن يكون على مستوى السائل والسؤال، دعنى أتهم الشللية النقدية بانتهاج آليه الكراهية والمجاملة، وآلية التجاهل والإقصاء، فلأسباب ليس هذا مجال ذكرها كان النقاد الأدبيون فى الغالب ولا يزالون من أتباع المدرستين الليبرالية والماركسية، وكانوا ولا يزالون لا يلتفتون إلا للكتاب الذين يتبعون أيا من الملتين، أنظر مثلا إلى ما فعلوه لإدريس وموهبته وقامته ليستا محل شك، وما لم يفعلوه لأبى المعاطى أبو النجا وموهبته وقامته ليستا محل شك أيضا، وانظر إلى ما فعلوه لأصلان وصنع الله إبراهيم وموهبة كل منهما وقامته طاغيتان، وما لم يفعلوه لفتحى غانم وموهبته وقامته هو الآخر طاغيتان أيضا، وأستطيع أن أضرب لك عشرات الأمثلة، إن منظر إبراهيم فتحى وفاروق عبد القادر وهما يجلسان كآلهة الأوليمب وبداخل كل منهما اعتقاد بأنه يوزع صكوك الشهرة والمجد على الكتاب يشعر ببؤس الواقع الذى أنتج ما تسميه الخريطة الأدبية، وأيضا هؤلاء الذين كفوا عن رصد المواهب والتبشير بها وانخرطوا فى أمور الكتابة النسائية وغيرها من الظواهر البليدة، ولهذ الأسباب فإن أجندة سيد الأهل رواية قد تسهم بالفعل فى تعزيز مكانتى الأدبية، إذا راجت بين القراء بما يكفى، أما عن النقد فإن الموات النقدى المتربع فوق عرش الخواء لا يتوقع منه الكثير. بوابة الأهرام : هناك سؤال يطرحه البعض.. لماذا توقفت الرواية عند موقعة الجمل ولم تسع لرصد ما بعد ذلك؟ ولماذا ركزت على تناول أحداث الأسبوع الأول فقط؟. اختيار البداية والنهاية والزمن مسألة فنية بالغة التعقيد، إنها تفاعل الشخوص مع الأحداث فى المكان والزمان، والثورة لم تكتمل بعد، إذ هى فى حالة سيولة يصعب رصد خيوطها بدقة، كما يصعب تحديد اتجاهاتها، فهى أشبه بالماء الذى يواجه عوائق فيتحول إلى مسارات جديدة، لا تزال تتشكل أمام أعيننا، ولقد وقفت بالأحداث عند واقعة الجمل لأنها من وجهة نظرى آخر الأحداث التى أثمرت، أثمرت فشلا فى صفوف قيادة النظام أطاحت بها، وبقى النظام نفسه، لم أكن أريد أن أصيب الثوار بالإحباط، فأنا متفائل بطبعى، والثورة ستبلغ مداها وأهدافها، لكنها لا تزال قيد الاندفاع، وأسبوع واحد فى حياة ثورة زمان طويل جدًا، وفى البدايات تكمن كل الممكنات.