ظل المشهد السياسى بين أنقرة وتل أبيب يدور خلال الأشهر الماضية فى فلك واسع من الشد والجذب. كل طرف يحاول استخدام ما بحوزته من أوراق لفرض إرادته، فى لعبة تتسم بتشابك إقليمى نادر، حتى جاء قرار تركيا بطرد السفير الإسرائيلى ليصب المزيد من الزيت على النار التى كانت تخمد أحيانا. وتشتعل فى معظم الأحيان. فى كل الأحوال لم يأت قرار الطرد من فراغ. فقد سبقته تطورات متفرقة ومناوشات متعددة وتجاذبات متباينة. جميعها يؤكد أن العلاقات بينهما مقبلة على فترة مشحونة. وسيكون من الصعوبة القطع بمن سيفوز فى مباراة، محكومة بجملة كبيرة من التوازنات والحسابات المعقدة، كان السر فيها هو ما حدث فى غزة قبل نحو عامين. الحاصل أن الكثير من علامات الاستفهام بدأت تطرأ حول مستقبل العلاقات التركية "الإسرائيلية" التي أخذت في التوتر الجدي منذ الحرب "الإسرائيلية" على غزة العام الماضي، عندما نفذ جيش الاحتلال مجزرة بحق نشطاء أسطول الحرية المتجه نحو القطاع. وهو ما أسفر عن استشهاد 19 متضامنا كانوا على متن سفن الأسطول في المياه الدولية معظمهم أتراك. علي الفور توالت الإدانات حينها من تركيا وعواصم عربية مختلفة. بعدها أوقفت تركيا رحلاتها البحرية والسياحية إلي إسرائيل واستدعت سفيرها فى تل أبيب "أوجوز شليكول" وطالبت بالاعتذار. ذلك الاعتذار الذي أصبح فيما بعد جوهر الخلاف بين الطرفين، حيث تصر أنقرة عليه، بينما تل أبيب لاتلين في موقفها الرافض لتقديم أي اعتذارات. ظلت الحال بين شد وجذب حتي ظهر تقرير للأمم المتحدة "المعروف باسم تقرير بالمر" عن الحادث أسطول الحرية بعد طول انتظار. وجاء فيه أن الحصار البحري الإسرائيلي لقطاع غزة كان قانونيا، لكن إسرائيل استخدمت قوة مفرطة فيما يخص جزئية الاعتداء علي أسطول الحرية "مافي مرمرة" وهو ما شكل خيبة أمل كبيرة بالنسبة لتركيا "علي حد قول وزير الخارجية". تركيا التي تطمع في توجيه الأحداث في المنطقة العربية بما يتماشي مع وضعها في ميزان التوازنات الاقليمية انطلاقا من هويتها الإسلامية وميراثها التاريخي، رفضت هذا التقرير وأعلن الرئيس التركي عبد الله جول أن بلاده تعتبر تقرير لجنة التحقيق الأممية حول حادث الهجوم على سفينة "مافي مرمرة" قبل نحو 15 شهرا ليس له وجود..". في خطوة أكثر وضوحا وجرأة وتعكس مدي الغضب التركي من موقف تل أبيب وتقرير لجنة بالمر أعلن أحمد داود أوغلو وزير الخارجية عن عدد من التدابير التي اتخذتها بلاده ضد إسرائيل في المرحلة الحالية، والتي تشمل خفض العلاقات الدبلوماسية بين البلدين إلى مستوى السكرتير الثاني ووقف كل الاتفاقيات العسكرية. من جهتها، أعلنت إسرائيل أنها ستقبل بتقرير لجنة بالمر الأممية حول أحداث السفينة "مافي مرمرة" التركية مع بعض التحفظات". واعتبرت أنه إذا قررت تركيا تخفيض مستوى العلاقات مع إسرائيل وإبعاد السفير الإسرائيلي عن أنقرة سيثبت ذلك صحة ما تقوله إسرائيل من أن تركيا تسعى لتصعيد الموقف ولا تريد إعادة العلاقات بين البلدين إلى سابق عهدها. وأضاف أن "العلاقات مع تركيا تمر بفترة صعبة حاليا ولا ينبغي إيلاء أهمية كبيرة للتهديدات الصادرة من انقره"، معتبرة أن الأتراك "يلحقون الأذى بأنفسهم من خلال تصعيدهم للموقف". كانت تركياً أول دولة مسلمة تعترف بإسرائيل سنة 1949 . وقد جاءت هذه الخطوة ضمن مجموعة من الخطوات التي اتخذتها تركيا لتتكامل عملية الانسلاخ عن تاريخها كدولة مسلمة عندما اختارت العلمانية منهجاً وراهنت على أوروبيتها بالرغم من أنها دولة مسلمة وبالرغم من ذلك مرت علاقتها بالدولة العبرية بالعديد من الاهتزازات وخاصة بعد صعود حزب الحرية والعدالة بقيادة "أردوغان" الي الحكم كان من بينها أزمة "وادي الذئاب" عندما أُجبرت تركيا إسرائيل على الاعتذار العلني على قلة الاحترام التي عاملت بها السفير التركي في تل أبيب، في ردة فعل على أحد مشاهد المسلسل التركي «وادي الذئاب» الذي أشعل فتيل أزمة دبلوماسية بين الدولتين وصلت إلى تهديد تركيا بسحب سفيرها. لكن هذه لم تكن المرة الأولى التي تنشب فيها أزمة دبلوماسية بين الدولتين بسبب عمل تليفزيوني، فقد سبق وحصل أمر مشابه، عندما عرضت قناة «تي آر تي» التابعة لهيئة الإذاعة والتليفزيون الحكومية التركية، مسلسل «انفصال» الذي يوثق للحرب الإسرائيلية الأخيرة على قطاع غزة، في نفس الفترة التي كان الصهاينة يدفنون الأطفال الأبرياء الفلسطينيين تحت أنقاض بيوتهم ومدارسهم التي كانوا يمطرونها بقنابلها الفسفورية. يبدو أن حالة "الربيع" التي تعيشها المنطقة العربية وهبوب رياح التغيير علي أكثر دول المنطقة العربية سيفرض علي كل الأطراف اللاعبين في المنطقة نمطا معينا من التعاطي مع الأحداث التي تمر بها المنطقة "بحكمة" وبعيدا عن الانفعالات الحماسية وهو ما دفع مسئول حكومي إسرائيلي إلي القول إن بلاده تأمل في إصلاح العلاقات مع تركيا بعد أن طردت أنقرة السفير الإسرائيلي. بغض النظر عن الفتور السياسي الواضح في العلاقات التركية الإسرائيلية وله مبرراته، فإن هناك حقيقة مؤكدة تتمثل في العلاقات الاقتصادية والتبادل التجاري بين البلدين . ففي 2008 بلغ حجم التعامل نحو 3.5 مليار دولار. ويقدر حجم التجارة بين الجانبين في الربع الأول من العام الحالي ب 753 مليون دولار، غير أن هناك أراء ترجح إمكانية تأثر التعاون التجاري بين البلدين بعد حادث الهجوم على "أسطول الحرية "وفقا لوسائل اعلام تركية". التوجه التركي القوي نحو التقارب مع العالم العربي انطلاقا من المجالين السياسي والاقتصادي ليشمل مجالات أخرى تعزز التعاون الثقافي والفني، حتى بات ينظر لذلك التقارب بأنه بمثابة تحرك استراتيجي يستهدف إرساء تحالف مع الشرق ليكون بديلا عن مشروع الانضمام للاتحاد الأوروبي أو نموذجا للتعاون يحاكي ذلك الاتحاد يمثل احد أهم الأوراق التي تستخدمها تركيا عندما تتعامل مع الغرب واسرائيل بصفة خاصة، فكيف سيكون التناول هذه المرة .. هذا ما سوف تشهده الأيام المقبلة.