يعد اقتصاد أى دولة جزءا من النظام الاقتصادى العالمى، وأيا كان شكل النظام الاقتصادى للدولة وطبيعته يظل دور الدولة موجودا، فقط يختلف تبعا لمدى ارتباطه بالنظام الاقتصادى العالمى. وقد تحولت مصر تدريجيا بدءا من الربع الأخير من القرن العشرين من نظام الاقتصاد الموجه إلى نظام الاقتصاد الحر أو اقتصاد السوق الذى يسود العالم الآن على اختلاف درجاته من دولة لأخرى، ففى ظل النظام الاقتصادى الموجه تحدد الدولة -الحكومة- نوعية وكمية وأسعار السلع التى ينبغى إنتاجها، وتكون أيضا مسئولة عن توظيف العمالة أو الخريجين من مستويات التعليم المختلفة، ومن أهم عيوب هذا النظام عدم القدرة على تخصيص عوامل الإنتاج على السلع والخدمات بكفاءة أو تحديد السعر المناسب، أو تلبية احتياجات جميع المستهلكين، نظرا لصعوبة الاستجابة للطلب المتغير بشكل عام، وغالبا ما تضطر الدولة لتغطية أى فروق تحدث بين التكلفة والسعر من مواردها. أما فى ظل نظام اقتصاد السوق أو الاقتصاد الحر، وهو يعنى فى مفهومه العام عدم تدخل الدولة فى الأنشطة الاقتصادية وترك السوق يضبط نفسه بنفسه وتقوم الدولة بالأنشطة التى لا يستطيع الأفراد القيام بها مثل الدفاع والأمن والعدالة وكذا المشاركة الفاعلة فى كل ما يتعلق ببناء الإنسان وبشكل خاص فى مجالى التعليم والصحة. ويتميز اقتصاد السوق بعدم وجود فجوة معرفية بين المنتجين والمستهلكين، وتتحدد الأسعار فى هذا السوق طبقا لقوى العرض والطلب على السلع والخدمات المختلفة، ويستهدف المنتجون الكميات التى ينبغى إنتاجها من سلع أو خدمات معينة لتلبية احتياجات المستهلكين على اختلاف مستوياتهم، ومن ثم يتم تخصيص الموارد بشكل أفضل لتحقيق أقصى قدر من الرفاهية الاجتماعية. وقد يزعم البعض غياب دور الدولة فى ظل اقتصاد السوق باعتبار أن القوى الفاعلة هى فقط قوى المنتجين والمستهلكين، ولكن هناك فاعلا أساسيا ثالثا وهو الدولة أو الحكومة فى ذلك السوق، والتى تلعب دورا مهما فى ضبط إيقاع السوق، ويختلف هذا الدور تبعا لدرجات حرية السوق. وهناك أيضا ما يعرف باقتصاد السوق الاجتماعى، وهو ليس بالنظام الجديد، فقد اقترحه الألمانيان ألفريد ألمارك ولودنيج إيرهارت منذ عام 1957، وهو نظام يسعى للاستفادة من مزايا اقتصاد السوق الحر فى تحقيق أكبر مستوى من الرخاء مع تأمين المجتمع والعاملين من خلال آليات تضمن تلافى عيوب المنافسة الشرسة والممارسات الاحتكارية وتجنب استغلال العاملين. ونعتقد أننا فى مصر نعيش مرحلة اقتصاد السوق الاجتماعى والذى يستلزم تدخل الدولة بمجموعة من الآليات لتحفيز النشاط الاقتصادى والتى تضمن فى الوقت ذاته ضبط الأسعار وحماية المنافسة ومنع الممارسات الاحتكارية. مع الالتزام بقواعد اقتصاد السوق المرتبطة بالنظام العالمى والتى تجلت أحدث صورها فى التزام مصر بتنفيذ اتفاقياتها مع الاتحاد الأوروبى بتخفيض الجمارك على السيارات المستوردة من أوروبا إلى صفر جمارك. وقبل التطرق إلى الآليات المقترحة فى الوقت الحالى الذى يشهد فيه المجتمع المصرى حالة غير مبررة فى ارتفاع أسعار العديد من السلع والخدمات، لعله من المهم مناقشة أهم أسباب ارتفاع الأسعار والتى تؤثر بشكل مباشر على مستوى "الحياة الكريمة للفئات الأكثر احتياجا" وهى المبادرة التى أطلقها السيد الرئيس عبد الفتاح السيسى واستجابت لها لجنة التضامن الاجتماعى والأسرة وذوى الإعاقة بمجلس النواب بفتح حوار مجتمعى حول قضية ضبط الأسعار. بداية من منظور الاقتصاد الكلى يجب أن تناقش قضية الأسعار من خلال المنظومة المعروفة بثلاثية الأجور والأسعار والإنتاجية والتى تتأثر وتؤثر عناصرها الثلاثة فى بعضها بعضا، فالتضخم الذى يعنى التغير فى المستوى العام للأسعار بالارتفاع، يؤدى إلى انخفاض القوة الشرائية للنقود ومن ثم قيمة ما يتحصل عليه المواطن من أجر أو دخل، ويؤدى بطبيعة الحال إلى ارتفاع مباشر فى أسعار غالبية السلع والخدمات، كما ينعكس بالسلب على حجم الإنتاجية، لارتفاع تكلفة عوامل الإنتاج وبشكل خاص الأجور المباشرة والمواد الأولية. وهنا تتجلى أهمية النظرة الكلية لقضية الأسعار، وذلك من خلال ضبط مجموعة من الأسواق وليس فقط أسعار أنواع معينة من السلع أو الخدمات التى يستفيد منها المواطن بشكل مباشر مثل: سوق السلع والخدمات الكلية، سوق النقد (إدارة النقد والاحتياطى الأجنبى)، سوق الأوراق المالية، سوق العمل، وتؤثر آليات عمل جميع هذه الأسواق ومستوى تقلباتها على جميع أنواع وأسعار السلع والخدمات التى يستهلكها المواطنون. ترتبط قضية الأسعار بشكل مباشر بقضية المنافسة، حيث إن حماية المنافسة لا تحقق فقط صالح المستهلكين ولكن أيضا تحمى مصالح كل من المنتج الصغير والمتوسط من الخروج من السوق. كذلك من المؤكد أنه ليس كل ارتفاع فى أسعار السلع يمثل ممارسات احتكارية، فقد تكون الزيادة بسبب زيادة فى تكاليف الإنتاج أو ارتفاع الرسوم الجمركية أو تغيرات موسمية فى الطلب على منتجات معينة بحسب الطلب عليها أو المعروض المتاح منها. ولكن يمكن فى الوقت ذاته التمييز بين نوعين من الممارسات الاحتكارية التى يجرمها قانون حماية المنافسة ومنع الممارسات الاحتكارية، من بينها وجود اتفاقية أفقية بين التجار أو المنتجين المتنافسين فى السوق على البيع بأسعار معينة للمنتج قد تعادل أو تقل عن التكلفة أحيانا لإجبار صغار المنتجين على الخروج من السوق أو إقصاء منافسين من الدخول إلى السوق -وهو ما يعرف بحرق البضاعة- ثم العودة مرة أخرى لرفع الأسعار، أو وجود اتفاقية رأسية بين المنتجين والموزعين لسلعة معينة لاستمرار ثبات أو الارتفاع المستمر فى سعر سلعة معينة بهدف تعظيم أرباحهم، وبطبيعة الحال جميعها ممارسات مرفوضة ومن شأنها الإضرار بالمنافسة فى السوق، ويجب تدخل الدولة فى هذه الحالات بالصورة التى تحقق حماية كل من المستهلكين وصغار المنتجين، وكذا الحفاظ على الصورة العامة للمستثمر المحلى، حيث إننا نسعى فى الوقت الحالى بشتى الطرق لجذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة بعد توفير العديد من عوامل البيئة الجاذبة للاستثمار، وفى اعتقادنا أن أكبر ركيزة لجذب المستثمر الأجنبى هى نجاح المستثمر المحلى.