إيران. هذه السوق الواعدة التى يفترض عودتها مؤخرا إلى أحضان الاقتصاد الدولى بعد عقود عانت فيها البلاد من عقوبات دولية حرمت المستثمرين الأجانب من الاستفادة من دولة بحجم إيران غنية بالنفط، واقتصاد يساوى أكثر من 400 مليار دولار. وقد وصف مسئولون وتجار بريطانيون إيران بأنها فرصة لا تأتى فى العمر إلا مرة واحدة، كما توقعوا استثمارات تبلغ تريليون دولار فى غضون 10 سنوات، أو كما علق أحد تجار الكماليات الفرنسيين المعروف بعقليته الاستعمارية “إن إيران الآن منطقة جديدة يمكن غزوها.” لا شىء يتحرك رغم التوصل للاتفاق وتشير مجلة الإيكونومست إلى أنه على الرغم من بقاء العقوبات الأمريكية المفروضة على التجارة الإيرانية، فإنه من المتوقع أن تدخل شركات من جميع انحاء العالم لتبدأ العمل خاصة بعد رفع العقوبات النووية فى يناير الماضي. وللوهلة الأولى نظن أنه الغيث، فبعد إقرار الوكالة الدولية للطاقة الذرية أن إيران قد حققت بالفعل شروط الاتفاقية مع القوى العظمى، أعلنت الشركات الأوروبية عن صفقات تساوى مليارات الدولارات، مثل شركة إيرباص التى أكدت أنها ستبيع لإيران 118 طائرة نفاثة، بل ألمحت إلى إمكانية تنفيذ صفقات مشابهة فى المستقبل، كذلك شركات بيجو وستروين وشركة رينو ونيسان أكدت أنها ستقوم بتجميع السيارات فى إيران وبيعها للشعب الإيرانى الذى يبلغ 80 مليون نسمة، كما يتوقع المحللون تحقيق مبيعات السيارات أرقاما قياسية هذا العام. ومنذ ذلك الوقت تدفق على طهران، العاصمة المختنقة بالدخان والمكتظة بالسكان، وفود المستثمرين من كل حدب وصوب يجاهدون للحصول على غرفة فى فندق تأويهم ليلا لينطلقوا صباحا يستكشفون فرصهم أو ينهون إجراءات أو يستخرجون موافقات وأوراقا، يعتقدون أنها كفيلة لتحقيق آمال الثراء الموعود. والحقيقة أن شركات الموضة الإيطالية وأرقى بيوت الأزياء العالمية مثل فرساتشى وروبرتو كافالي، بالإضافة إلى بيوت مساحيق التجميل والعطور الفرنسية مثل سيفورا قد افتتحت فروعا ومنافذ عديدة فى العاصمة الإيرانية، أو على الأقل تخطط لتحقيق هذا الهدف فى أقرب فرصة. والجدير بالذكر أن هناك شائعة باتت تتداول فى المقاهى الإيرانية حول شركة أوروبية تعد ذراعا لشركة أمريكية تصنع التوربينات، قد وافقت على إنشاء شركة مشتركة أوروبية إيرانية، ناهيك عن ظهور العديد من الشركات التى يديرها إيرانيون وألمان ذوو صلات وروابط قوية مع الحكومة مهمتهم تسهيل الكثير من الإجراءات ومساعدة المستثمرين على التعرف على الأسواق والفرص المتاحة وإنشاء الشركات المشتركة، وتأجير المكاتب، والحصول على كروت الائتمان المدفوعة مسبقا، ولكن هناك صعوبات جمة ومنها الحصول على التمويل اللازم، ففى 13 إبريل الحالى نفى مسئولو وزارة المالية الإيرانية احتفاظ الولاياتالمتحدةالأمريكية بأصول إيرانية مجمدة فى بنوكها مما يحرم الدولة من أموال كان يمكن ضخها فى شرايين الاقتصاد الإيرانى المنهك، ومع هذا لم يظهر أثر للأموال المحررة وفق تلك التصريحات على الاقتصاد الإيراني!. والأخطر هو إنكار أمريكا حق الشركات التى تم انشاؤها واقامتها فى إيران الاتصال بنظامها المالي، مما جعل البنوك الأجنبية تحجم عن التعامل معها حتى لا تتعرض لغرامات طائلة بموجب القوانين الأمريكية، حيث يقدر مكتب مراقبة الأصول الأجنبية إجمالى العقوبات المالية التى تم فرضها على المتعاملين مع إيران بنحو 14 مليار دولار. ودون تمويل البنوك سوف يكون من العسير المضى قدما فى سبيل تنفيذ الصفقات والعقود والشراكات التى تم الإعلان عنها واحتلت عناوين الأخبار منذ يناير الماضي، كما يبدو أن ثمة صعوبة تواجهها الخزانة الأمريكية فى تحديد المقاييس التى يجب أن تلتزم بها ايران لاستعادة التواصل مع النظام المالى الأمريكي، بل يعلق أحد تجار القمح الذى يتعامل مع موردين أمريكيين “إن الوضع كان أفضل كثيرا إبان العقوبات الاقتصادية، حيث كانت البنوك تعرف ما يمكنها وما لا يمكنها عمله، ولكن المحامين الآن هم الذين يتخذون القرارات، والوضع على ما هو عليه، لا شيء يتحرك”. ويضيف أحد رجال الأعمال البريطانيين - الذى توقف عن التعامل مع السوق الإيرانى منذ قبل ست سنوات - وهو ينتج آلات وعدد الحفر التى تستخدم فى استخراج النفط قائلا “إننا لا يمكن أن نبيع الآن، فالبنك الذى نتعامل معه لن يقبل مدفوعات من إيران”. والمعروف أن هناك وكالات لتنمية الصادرات الأوروبية التى تتعامل ائتمانيا كما فعلت شركة إيطالية قدمت ائتمانا بنحو 5 مليارات دولار، كما بدأ عدد محدود من البنوك الأوروبية مثل بنك كى بى سى البلجيكى وبنك دى زد الألمانى الدخول فى هذه التعاملات، ربما شجع هذه البنوك عدم حضورها المكثف فى السوق الأمريكية وهى بنوك لا يمكنها التعامل بالدولار الأمريكى إلا فى حالة إقرار أمريكا ان هذه الدولارات كانت موجودة فى الأسواق الخارجية بالفعل، ولذلك فيمكننا أن نفهم أن هذه البنوك لم تختبر المياه العميقة حتى الآن. ويقول المرشد الإيرانى آية الله خامنئى إن الأمريكيين قد رفعوا العقوبات على الورق فقط ويؤكد حميدرازا تراغى مستشار قائد الثورة، ان الصفقات التى تم الإعلان عنها بما فى ذلك صفقة إيرباص كانت مجرد ظهور إعلامي، فقد جاء مسئولون من الشركة هذا الشهر ولكن لم يتم الانتهاء من الاتفاقية أو توقيعها، كذلك كان من المقرر أن يتم عقد اجتماع تجارى دولى فى طهران هذا الخريف ولكن تم إلغاؤه بسبب عدم الاهتمام، كما ألغى وزير البترول الإيرانى خمسة اجتماعات فى لندن من قبل. ويشكو رازا سادغيان مالك أحد مواقع التجارة الإلكترونية “نت راج” وهى شركة تنمو سريعا فى إيران، من أن مشغل الشبكة الأمريكى قد أغلق جميع المواقع هذا العام دون سابق إنذار، وهو ما لم يحدث عندما كانت إيران تحت الحظر، كما أكد أنه منذ أن تم رفع الحظر جعلت أمريكا عملية منح الأوروبيين تأشيرة لزيارة إيران أمرا أكثر صعوبة من ذى قبل، كذلك لا يزال هناك حظر أمريكى على استهلاك واستخدام المنتجات الأمريكية تجاريا فى طهران، بل ينصح أحد المحامين المقيمين فى لندن الشركات التى ترغب فى الاتجار مع إيران أن رجال الأعمال الزائرين يجب عليهم ألا يستخدموا الكمبيوتر اللوحى أو برامج الماكروسوفت وما شابه ذلك. والمتاعب لا تنتهى عند هذا الحد، فهناك استثمارات تم إنفاقها بسخاء ظاهر وصل إلى حد التبذير على البنية التحتية لقطاع النفط، وعلى الرغم من زيادة الإنتاج لم ترتفع العائدات التى وصلت إلى 125 مليار دولار عام 2010، ولكن الآن توجد شكوك حول استطاعة إيران الحصول حتى على 25 مليار دولار. وفيما يتعلق بمعظم الصناعات الإيرانية بما فيها البترول فقد تدهورت بدرجة كبيرة، فقد باتت المناطق الصناعية التى ازدهرت فى الماضى أطلالا ومدنا للأشباح، وعلى الرغم من ان السلع الترفيهية قد تحظى بفرصة، إلا أن ميزانيات معظم الأسر لا يمكنها تحمل هذا النمط من الاستهلاك، وعادة يلجأ السكان إلى المنتجات الصينية الأرخص كبديل لتلك الأوروبية حتى ولو على حساب الجودة أو الكفاءة أو الذوق. وما يعقد الأمر هى البيروقراطية التى تعشش فى أروقة الهيئات والمصالح الحكومية والتى تربك وتحبط الزائرين ورجال الأعمال الغربيين على حد سواء، فعلى سبيل المثال استطاع العديد من رجال الأعمال الحصول على تأشيرات للإقامة أما الحصول على تصاريح العمل، فهى عملية مجهدة ومعقدة قد تنتهى بإغلاق المكاتب والشركات بالشمع الأحمر، ناهيك عن تعرض بعضهم للحبس، مثل سياماك نامازى وهو رجل أعمال إيرانى متجنس بالجنسية الأمريكية الذى قبض عليه هو ووالده المسئول السابق فى هيئة الأممالمتحدة. كذلك فتصريحات المسئولين الإيرانيين لا تنبئ بخير، فها هو هادى خامنئى أخو قائد الثورة آية الله خامنئى يقول “إننا لن نذهب إلى بلادهم ونحن لا نريدهم ان يأتوا إلينا أو يعيشوا معنا”. كذلك هناك فساد مستشرٍ ومصادر مثيرة للشك بالإضافة إلى أنشطة لجماعات ظل تعمل فى الخفاء مثل الحرس الثورى الإيرانى الذى يتمتع أعضاؤه بصلات قوية وتعاملات اقتصادية لا يستهان بها البتة حتى انه من الصعب التعامل مع السياسة الإيرانية أو التوصل إلى شركات محاماة تتمتع بالثقة والمصداقية دون الاستعانة بهؤلاء، على الرغم من عودة العديد من الشركات الأجنبية للعمل فى إيران. وقد احتلت إيران المركز 118- وهى مكانة متوسطة بين الدول - حسب مؤشر مجموعة البنك الدولى الذى يقيم سهولة أداء أنشطة الأعمال. والمؤشر يقيس عدة عناصر منها تسجيل الملكية، الحصول على رخص البناء، الحصول على الكهرباء، إنفاذ العقود، والتجارة عبر الحدود واجراءات إنشاء الشركات. ويمكن لإيران تحسين هذا التصنيف إذا استطاع البرلمان المنتخب حديثا سن تشريعات تنظم القواعد الجمركية أو تسهيل استئجار العمال وطردهم، ذلك بالإضافة إلى إعادة هيكلة شركات ومصانع القطاع العام مثل شركة إيران للطيران. وهذه الإصلاحات ممكن أن تصبح ذات جدوى بغض النظر عن وجود التمويل الأجنبي، فالعلاقات مع أمريكا لن تتحسن سريعا، فأمريكا تقول إن حكومة إيران تنتهك روح الاتفاقية الدولية بتدشين أسلحة جديدة وربما تفعل أكثر من ذلك. وقد طالب الرئيس أوباما إيران بالكف عن الأعمال الاستفزازية التى قد تعيق العمل والصفقات التجارية، كما لا يتوقع أن تخفف أمريكا من موقفها إلا بعد الانتخابات الرئاسية القادمة فى شهر نوفمبر المقبل . وكما يعلق أحد المستشارين المقيمين فى إيران فإن هناك مخاطرة كبيرة على المستثمرين إذا نجح مرشح جمهورى، فمازالت هناك آمال عريضة ووعود براقة تنتظر إيران ولكن خلط الأوراق سيكون له آثاره غير الحميدة.