عادة ما تحتل قضية التوظيف أولوية لدى السياسيين، ومع احتدام المنافسة فى السباق الرئاسى الأمريكي, يتبارى المتنافسون لكسب تأييد الناخبين من خلال التأكيد على حماية الوظائف من المنافسة الأجنبية حتى إن كان على حساب التجارة الحرة؛ ليختلف المرشحون فى معظم القضايا ويتفقوا على أمر واحد وهو إعلان الردة عن العولمة. أشار تقرير لمجلة الأيكونومست إلى خسائر الاقتصاد الأمريكى بسبب التجارة الحرة موضحا فى الوقت نفسه أنها لم تكن أيضا صفقة خاسرة؛ إذ حققت التجارة الكثير أيضا. وإدراكا منها لذلك كله لم تعد اتفاقيات التجارة هذه الأيام تتعلق بمجرد الرسوم الجمركية وإنما بمسائل أخرى بما يحقق النفع بالطبع للعامل الأمريكى واقتصاده. وقال التقرير إن الخسائر أكبر مما كان يعتقد من قبل، وهو ما تؤكده الوتيرة السريعة لصعود التنين الصينى؛ إذ ارتفعت حصة الصين من الكعكة العالمية للصادرات الصناعية من 2% فى عام 1991 إلى 91% بحلول 2013 ؛ فبين عامى 1999 و2011 خسرت الصناعة الأمريكية حوالى 6 ملايين وظيفة، والقضية ليست فى ضخامة الخسارة بقدر ما تعنيه؛ فالاقتصاد الأمريكى بما يتمتع به من ديناميكية عالية قادر على خلق وخسارة ما يقرب من 5 ملايين وظيفة شهريا. غير أن مجموعة من الدراسات الأكاديمية توصلت أخيرا إلى ما أثار قلقا واسع النطاق؛ إذ تبين أن 20% من التراجع فى معدلات التوظيف الصناعى بين 1999 و2011 يرجع إلى المنافسة الصينية، واأن معظم من فقدوا وظائفهم بسبب الواردات الصينية لم يجدوا غيرها. وأسوأ التداعيات المتوقعة لهذه المخاوف هى نزعة الحمائية التى يبديها المرشحون الأمريكيون؛ فالجدل بخصوص تلك القضية جعل من “التجارة الحرة” قضية انتخابية ساخنة فى السباق الرئاسى الأمريكى؛ فمن جانبه وعد المرشح الجمهورى دونالد ترامب بفرض رسوم ضخمة على واردات السلع الصينيةوالمكسيكية وتصل إلى 45% على الأولى. أما منافس هيلارى كلينتون بيرنى ساندرز، المرشح الديمقراطى، فقد أعلن صراحة اعتراضه على اتفاقيات التجارة الحرة، وكلينتون ذاتها تراجعت عن تأييدها السابق لاتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ التى تفاوض عليها باراك أوباما. يذكر أن اتفاقيات التجارة الحرة كانت تعد أحد محركات النمو خلال فترات الازدهار الاقتصادى بعد الحرب العالمية الثانية، غير أن الاتجاه العام للسياسيين تغير ولم يعد هناك من يدعمها، وإن كان لايزال هناك بعض الآراء المؤيدة لها . من ناحية أخرى عززت السلع المستوردة الرخيصة القوة الشرائية لأصحاب الدخول المنخفضة من الأمريكيين؛ فبحسب دراسة لجامعة كاليفورنيا ستخسر العائلات الأمريكية متوسطة الدخل نحو 29٪ من قوتها الشرائية فى حالة إلغاء التجارة الحرة، أما خسارة الطبقة الفقيرة فستصل إلى %62. وعلى سبيل المثال سعر الملابس لم يتغير عن عام 1986 وتكلفة تأثيث منزل كما كانت قبل 35 عاما مضى. وبحسب دراسة للاقتصاديَّيْن روبرت لورنس ولورنس إدواردز: التجارة مع الصين باتت توفر للمواطن الأمريكى 250 دولارا بحلول عام 2008. وتقدم ألمانيا نموذجا ناجحا؛ فمن ناحية هى أكبر مركز صناعى فى أوروبا وتمكنت من الصمود فى مواجهة المنافسة الصينية، وذلك بفضل جهودها المستمرة لتحسين قدرات عمالها، وهو ما يعد نقطة ضعف الصناعة الأمريكية. من مواطن الضعف الأمريكى -أيضا- عن دول غنية أخرى؛ سياسات سوق العمل “الفعالة” التى تساعد العامل الذى فقد وظيفته على العثور على أخرى. والجديد فى النزعة الحمائية هذه الأيام تغير رأى الاقتصاديين بخصوص تأثير التجارة الحرة مع انتقاد الكثيرين منهم لها. يذكر أن الاقتصاد الأمريكى بدأ الانفتاح تدريجيا على الواردات الرخيصة منذ الثمانينيات، وتسارعت وتيرة انفتاحه منذ عام 1993 بعد توقيع اتفاقية نافتا مع المكسيك وكندا؛ فارتفعت واردات أمريكا من المكسيك بنحو خمسة أضعاف بين عامى 1993 و2013 ، وذلك وفقا لإحصاءات معهد بيترسون البحثى. أما صادراتها إلى المكسيك فارتفعت بنحو 3.5 ضعف، ونتيجة لذلك حدث عجز تجارى بنحو 23 مليار دولار بنسبة 2.0% من الناتج المحلى الإجمالى الأمريكى فى غضون خمس سنوات. فى الوقت نفسه، صِغر حجم الاقتصاد المكسيكى قلّص من تأثير اتفاقية نافتا، لكن الصدمة الحقيقية كانت فى عام 2001 بانضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية. وبعلى الرغم من عدم تغير الرسوم الجمركية فإن تسونامى السلع الصينية الرخيصة اجتاح الأسواق الأمريكية، فارتفعت الواردات الصينية من 1٪ من الناتج المحلى الإجمالى الأمريكى فى عام 2000 إلى 2.7% بحلول عام 2015، وبلغت واردات الولاياتالمتحدة من الصين فى عام 2014 نحو 397 مليار دولار. وكانت الصين قد خفضت عملتها مقابل الدولار العام الماضى بشكل ملحوظ، عندها أكدت بكين رغبتها فى إعطاء السوق دورا متزايدا، غير أن هذا التخفيض لقيمة العملة الصينية استهدف وقف تراجع الصادرات الصينية. ويرى خبراء أن خفض قيمة اليوان ساهم بالفعل فى دعم الصادرات الصينية عبر تعزيز قدرتها التنافسية . وهكذا يلقى كثيرون باللوم على ربط اليوان بالدولار فى تضخم العجز التجارى، لكن بحلول عام 2014 تراكم لدى بكين 4 تريليونات دولار من النقد الأجنبى بفضل غزو سلعها الرخيصة. فى الوقت نفسه التجارة خلقت أسواقا جديدة للشركات الأمريكية؛ ففى عام 1993 باعت أمريكا حوالى ما قيمته 10 مليارات دولار من السيارات ومكوناتها إلى المكسيك بأسعار اليوم، وبحلول عام 2013 ارتفعت صادراتها إلى 70 مليار دولار. الجدير بالذكر أن الصادرات الأمريكية زادت بحوالى 002% بين عامى 2005 و2014 مع تصدر الزراعة وصناعات الطيران والسيارات. فى عام 2008 حذر الاقتصادى بول كروجمان من أن التجارة مع الصين ودول فقيرة أخرى تزيد من عدم المساواة، وفى عام 2013 كشفت دراسة له أن التجارة مع الدول الفقيرة خفضت أجور العمالة غير الماهرة بنسبة 10٪ فى عام 2011 مقارنة بانخفاض قدره 7.2% فى عام 1973. ما سبق لا يعنى أن التجارة الحرة صفقة فاسدة؛ فأوضح تقرير الأيكونومست أن اتفاقيات التجارة الحرة اليوم لم تعد كاتفاقيات نافتا وغيرها، وعلى سبيل المثال 10% من المكاسب التى ستحققها اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ ستكون من خفض الرسوم الجمركية. وتهتم الاتفاقية بمسائل مثل الملكية الفكرية وتحرير تجارة الخدمات علاوة على فرض معايير صارمة فيما يتعلق بالعمالة والبيئة. وجميعها ستفيد فى نهاية الامر العامل الأمريكى. ووفقا لدراسة حديثة الاتفاقية ستعزز الدخل الأمريكى بنحو 131 مليار دولار سنويا او 5.0% من الناتج المحلى الاجمالى وهو ما يزيد عن مائة ضعف ما انفقته أمريكا على برامج دعم العمال فى عام 2009 ويأمل كثيرون ان تنضم الصين بمرور الوقت إلى اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ فتضاعف الطبقة المتوسطة فيها خلال السنوات العشر المقبلة يعنى طلبا قويا على قطاع الخدمات ابتداء من التمويل إلى الاتصالات وهى مجالات تستطيع الشركات الأمريكية المنافسة فيها ,لاسيما ان الاتفاقية تتضمن قيودا على الشركات المملوكة للدولة ما يعنى ان الشركات الصينية العامة ستكون اقل تنافسية. ونفس الشيئ بالنسبة لاتفاقية التجارة الحرة مع اوروبا إذ يأمل المفاوضون الأمريكيون فى التوصل إلى الشراكة التجارية والاستثمارية عبر المحيط الاطلسى فى صناعات مثل الادوية والاتصالات والمواصلات. وازالة الحواجز “غير الجمركية” قد تزيد الناتج المحلى الاجمالى الأمريكى بما يصل إلى 3٪ وفقا لاكثر الدراسات تفاؤلا. وسيظل امام العالم مهمة العثور على افضل آلية لتنظيم التدفق العالمى للبيانات , وهى قضية تستحوذ فيها أمريكا على نصيب كبير باعتبارها مركز التكنولوجيا الرئيسى فى العالم.