كنا فى الطريق إلى المنزل بالسيارة ومررنا بشارع الدقى، حيث تقف عربات الفاكهة المميزة، فاستأذن السائق فى أن يشترى بعضا منها، وهبط من السيارة وأنا جالس فى المقعد الخلفى. وفجأة شعرت أن السيارة تتحرك، لأن الأخ السائق نسى أن يشغل فرامل التوقف! وبدأت السيارة تتجه بهدوء -دون سائق- نحو نهر الشارع، وحاولت أن أنحنى من مكانى فى الخلف فوق المقعد الأمامى للسيارة لأسيطر على اتجاهها، ثم بدأت أبحث عن فرملة اليد، فاكتشفت أن السيارة مزودة بفرامل قدم. وحاولت أن أعبر للأمام، وهو أمر كان عويصا لارتفاع كل من ظهر الكراسى الأمامية، وارتفاع وزنى أيضا. وبعد ثوان، نجحت فى الوصول لمقعد السائق، وأن أوقف السيارة بالكاد خلف سيارة أجرة كانت أمامى. وبعد أن مست سيارتنا بجانبها الأيمن عارضة التصادم الخلفية لسيارة صغيرة بدت جديدة، فجرحت الجانب الأيمن لسيارتنا قليلا. ومن مرآته أدرك سائق السيارة الأجرة حالة الهلع التى مررت بها. فجاء بشهامة ليطمئننى، لكن السيارة الحمراء الجديدة انفتحت وخرجت من المقعد الخلفى سيدة فى أواسط العمر، كما خرج شاب من مقعد القيادة الأمامى. وفى حين حاول سائق الأجرة وسائق الملاكى إقناع سيدة المقعد الخلفى أنه لم تحدث أى إصابات، فإن السيدة ظلت تصيح متسائلة عما إذا كنت أعرف ثمن سيارتها! وأبديت أسفى موضحا أننى كنت أقود من المقعد الخلفى مضطرا، وأننى مستعد لتعويض أى ضرر، إن وجد. فعادت السيدة للصياح مهددة بأنها «زوجة سفير»، فحمدت الله وقدمت نفسى وسألتها من يكون زوجها، فسكتت فجأة عن الكلام وانسحبت إلى سيارتها، وانتهى الأمر عند هذا الحد. ومن وقتها ازداد انتباهى نحو أولئك الذين يقودون المعارك من المقاعد الخلفية، أو من خلف الصفوف، خاصة مع إدراكى من تجربتى الشخصية استحالة القيادة من المقعد الخلفى. تذكرت ذلك والأنباء تتوالى عن تحسن أداء الاقتصاد المصرى فى الشهور الأخيرة، حيث قدر كثير من المصادر المتخصصة أن الاقتصاد المصرى أصبح فى صورته الإجمالية يسير بشكل جيد مقارنة بما كان عليه الحال من قبل. كما تأكد أن الاقتصاد على أعتاب 2018 يبدو أكثر استعدادا للانطلاق، وأن الانطلاق الفعلى سيتطلب استمرار الإصلاح الكلى على الوتيرة نفسها، وتعميق الإصلاح الهيكلى المحفز للنمو، وتوسيع رقعة الإصلاح لتشمل جوانب العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص. وخلاصة القول، كان عام 2017 بالنسبة للاقتصاد المصرى نقطة اختبار حقيقية لتنفيذ برنامج التثبيت الكلى الذى تم الاتفاق عليه مع الصندوق منذ أواخر 2016 . وخرجت مصر من هذا الاختبار بنجاح اعترفت به المؤسسات الدولية مثل صندوق النقد والبنك الدوليين، ومؤسسات التقييم مثل «موديز وفتش»، و»بلومبرغ» وغيرهما، والمستثمرون أنفسهم. كما اتخذت الحكومة عددا من الإجراءات لتحسين مناخ الاستثمار وتقوية شبكة الحماية الاجتماعية. وقال البنك المركزى المصرى إنه وفر نحو 30 مليار دولار مصر لسداد متطلبات التجارة وسداد مستحقات لجهات دولية جزء منها مستحقات على جهات حكومية، وإن البنك المركزى ملتزم بسداد كل المستحقات الخارجية على مصر. وتتجه أنظار صناديق ومحافظ استثمار عالمية نحو مصر على الرغم من المخاطر التى تواجه المنطقة العربية، حيث تراهن بنوك كبرى على مستقبل الاقتصاد المصرى فى أعقاب الإجراءات الأخيرة، بما فيها أحد أكبر البنوك الاستثمارية فى روسيا «رينيسانس كابيتال»، الذى قال مدير الاستثمارات الدولية فيه إنه يراهن حالياً على تحسن الاقتصاد المصرى على المدى الطويل، واستصدر البنك رخصة للعمل فى مصر بداية من العام الحالى، لأن مصر “تمثل سوقاً استثمارية مهمة وواعدة وأن المؤسسة شكلت رؤية على المدى الطويل بشأن السوق المصرية، ولديها قناعة راسخة بأن هذه خطوة إيجابية”. وقالت «بلومبيرغ» إن الاقتصاد المصرى بعد مرور عام على تعويم الجنيه “يسجل نمواً متسارعاً، أما البورصة المصرية فتقترب من تسجيل مستويات تاريخية مرتفعة”. ولفتت النظر معلومة وردت فى بيانات البنك المركزى مؤخرا تقول إنه بالرغم من تراجع تجارة مصر الإفريقية بعد سنة 2011 فإنها عادت مؤخرا لتستعيد معدلاتها بصورة جيدة، بل إن صادرات مصر إلى إفريقيا (1227 مليون دولار) تجاوزت صادراتها إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية (985 مليون دولار)، كما أن مصر تحتل المركز الثانى فى التجارة البينية الإفريقية. وبالرغم من ذلك فإن بعض المتابعين من الصفوف الخلفية يشككون فيما يحدث، ويجدون مبررات لخفض التوقعات على غير ما تقول به مؤسسات الخبرة العالمية، ويوجهون الأنظار لسلبيات صغيرة هنا أو هناك، ويرون ما لا يراه صانع القرار، ويوجهون عجلة القيادة من المقعد الخلفى دون دراية بكل أحوال الطريق، الأمر الذى يؤثر فى صناعة القرار ويبطئ منها، وهى بحاجة للإسراع. ويبدو أن ذلك شكل ضغوطا على صناعة القرار فتأخر الكثير من القرارات، حتى صار معروفا أن برنامج الإصلاح الاقتصادى بشقيه المالى والنقدى تأخر البدء فيه من سنتين إلى ثلاث سنوات، وأن التنفيذ عندما بدأ صار يجرى ببطء تحت ضغوط النقد السياسى من المقاعد الخلفية. ونحن ندرك أن الاقتصاد المصرى ما يزال فى حاجة إلى مزيد من الإصلاحات الهيكلية لتحسين الإنتاجية، واستهداف معدلات نمو مناسبة، وجعل الإصلاحات السياسات والاجتماعية محققة للطموحات. لكن مهما سلمنا بأن طموحاتنا الاقتصادية لم تكتمل، وأن العدالة الاجتماعية لم تتحقق كاملة بعد، فلا يمكن لأحد أن ينكر أن أوضاع مصر الآن أفضل بكل المقاييس مما كانت عليه فى سنة 1979. فمصر هى الدولة العربية الأكثر سكانا، والأكبر جيشا، وتحتل مركز أول دولة إفريقية، وثانى أو ثالث أغنى دولة عربية بعد السعودية والإمارات بمعيار الناتج القومى الاسمى، فهل يضع ذلك مصر بأى صورة فى مركز ضعف؟! والمطلوب من الدولة أن تتيح شفافية أكبر فى الأداء وحوارا أوسع يدمج الجميع فى العمل الاقتصادى الوطنى ويجعل الجميع يصطفون خلفه. والمطلوب ممن يتابع خلف الصفوف أن يرأف بنا ويقبل بحقيقة أن القرار السياسى أو الاقتصادى السليم ليس بالضرورة هو القرار الأكثر شعبية.