تناولنا فى المقالات السابقة بعض العناصر المرتبطة باستصلاح «المليون ونصف المليون فدان» وقيام قرى مصرية حديثة على الأرض الموعودة مما يستدعى التذكير بضرورة النظر بجدية نحو التخلص الآمن للنفايات.. نباتية كانت أو حيوانية.. تجنبا لآثارها الضارة على البيئة وانطلاق الغازات المدمرة فى الجو التى يصعب التحكم فيها. والأهم من هذه وتلك الاستفادة الاقتصادية الكاملة من تلك النفايات. إن إنتاج البيوجاز.. أو الغاز الحيوي.. قد يكون من الروافد المهمة لمشاريع استصلاح الأراضى التى من المتوقع أن تزيد معها النفايات وتراكم القمامة وتكون هناك صعوبة فى التخلص منها كما هو حادث الآن!!! فى قمامة المدن وكذلك القرى. إن التخلص من النفايات بالحرق أو الدفن للقمامة فى مدافن صحية Landfills هو إهدار لموارد ذات عائد اقتصادى كبير تخلصا من مشكلة ذات مردود بيئى أكبر وأخطر. والبيوجاز بمفهومه البسيط هو خليط من الغازات أهمها الميثان (55-70٪) وثانى اكسيد الكربون (30-45٪) اللذين تتفاوت نسبتيهما حسب طبيعة المادة العضوية الداخلة فى عملية التحلل. بمعزل عن الأكسجين بواسطة البكتريا والكائنات الدقيقة الاخرى.. ويمكن ترقيته إلى مستوى الغاز الطبيعى Natural gas عند رفع نسبة الميثان الى ما يوازى 77٪- 90٪. وينطلق البيوجاز من الرواسب العضوية فى قاع المحيطات والبحيرات حيث تسود الظروف اللاهوائية فى الأعماق.. أو حيثما تسود الظروف اللاهوائية.. حيث من المدهش أن نعلم ان البيوجاز ينطلق أيضا من مياه غير عميقة مثل مزارع الأرز Rice paddies!!! كما يتكون الميثان.. المكون الرئيس للبيوجاز... فى كرش الحيوانات المجترة مثل الأبقار والأغنام والجمال. والبيوجاز هو طاقة متجددة renewable يمكن استعمالها فى التسخين وتوليد الكهرباء وفى مواتير الاحتراق الداخلي.. وقد تم الاهتمام به وتطويعه للاستفادة من الطاقة الكامنة فيه بعد ما تلاحظ من تأثيره الضار على البيئة لاحتوائه على الميثان وتسبيبه ارتفاع حرارة الجو Global warming وتآكل طبقة الاوزون.. بل تكوين ضباب كيميائى ضوئى Photochemical smog ينطلق من مقالب القمامة.. كما أن الميثان الذى يحتويه البيوجاز يتفوق عشرين مرة على ثانى اكسيد الكربون فى أحداث جو الصوبة Greenhouse climate ويعتقد أن Donald Cameron الإنجليزى هو أول من استعمل البيوجاز على نطاق اقتصادى عام 1890 بتطويره خزانات الصرف الصحى Septic tanks بما يسمح بتجميع الغاز واستعماله فى إضاءة الشوارع.. وبعد ثلاثة عقود من الزمان أى عام 1920 قامت الدانمارك بتجميع الغاز من محطات معالجة مياه الصرف Wastewater treatment للاستغلال الاقتصادى من جهة ولتقليل بعض من الحمأة المتكونه Sludge من جهة أخرى.. أعقبها ازدهار تكنولوجيات استغلال الغاز الحيوى وتطبيقاتها فى مختلف مناحى الحياة ومنها الزراعة.. وذلك توفيراً لمصادر الطاقة وتخفيضا لنفقاتها. يتضح مما سبق أن البعد الاقتصادى لإنتاج البيوجاز كان متزامناً مع البعد البيئى منذ نهايات القرن التاسع عشر وذلك بالرغم من عدم وضوح الرؤية فى حينها عن الآثار البيئية المترتبة عن انطلاق تلك الانبعاثات الى الجو. ففى دراسات رائدة بالولايات المتحدةالأمريكية قدر أن إنتاج البيوجاز من روث الأبقار واستعماله يعطى ما يوازى 100 مليار كيلوات/ ساعة من الطاقة الكهربائية.. فعائد المواد البرازية للبقرة الواحدة من الطاقة الكامنة فى البيوجاز يوازى 3 كيلووات/ ساعة فى اليوم الواحد.. كما أن 2.4 كيلووات/ ساعة كافية لإضاءة لمبة قوتها 100 وات لمدة يوم كامل. فأين مصر من هذه التلميحات التطبيقية للتكنولوجيا؟ خصوصا بعد ارتدادنا الى استعمال الفحم .. أو الشيطان الأكبر للبيئة.. حجريا كان أو معوجاً.. لتشغيل محطات توليد القوى الكهربائية لتناقص الوقود العارض فى القرن الحادى والعشرين.. وعدم التفكير فى هذا المصدر الثرى من الطاقة المتجددة. جدير بالذكر أنه قد تم التوسع فى استعمال البيوجاز فى شمال وغرب أوروبا.. خصوصا بعد الحرب العالمية الثانية وكذلك استعمال سلاح البترول كوسيلة للضغوط السياسية والاقتصادية.. وأصبحت ألمانيا أكبر منتج للبيوجاز والأشهر تسويقاً لهذه التكنولوجيا على عكس دول أوروبا الشرقية بسبب الإدراك السلبى الشائع فى ذاك الوقت Negative public perception وكانت المملكة المتحدة من أوائل دول اوروبا التى أعلنت عن وجود 130 وحدة لإنتاج البيوجاز لديها.. معظمها داخل المزارع.. وبعضها كبير وخارج المزارع اعتمادا على فضلات الإنسان وبقايا غذائه. إلا إنه بحلول عام 2010 تم التوسع فى هذه التكنولوجيا فى إنجلترا وتم ضخ الغاز الحيوى فى الشبكات حيث تم تجميع مياه الصرف الصحى Sewage من 30000 منزل فى إكسفورد Oxfordshire فى محطة المعالجة Didcot sewage treatment works حيث عولجت فى مخمرات لاهوائية لإنتاج البيوجاز ثم تنقيته وضخه الى 200 منزل.. ومع نجاح التجربة وبحلول عام 2015 قامت شركة الطاقة الخضراء Green energy company بالإعلان عن خططها لإنشاء مخمرات جديدة للضخ فى الشبكات. مما سبق يتضح أن المملكة المتحدة سلكت طريق التدرج فى تطبيق هذه التكنولوجيا.. دون تباطؤ بل بنشاط متزايد بعد ذلك.. رغم وجود كميات هائلة من الغاز الطبيعى فى بحر الشمال ولكن كان الأصل فى الموضوع هو عدم إهدار الطاقة من مصادرها الطبيعية والحفاظ على البيئة. فأين نحن من هذا التوجه؟.. ولماذا نتأخر فى التطبيق؟ وهل ستتزايد حدة هذا التأخر بعد ظهور الغاز الطبيعى بكميات هائلة بالبحر الابيض والمياه الإقليمية لمصر وجيرانها؟ قد تكون الإجابة صادمة من حيث ضيق ذات اليد.. أو عدم وجود السيولة الكافية حالياً.. ولكن علينا أن نطيل النظر فى تجارب الصين والهند وهما من أوائل البلاد التى اعتمدت على البيوجاز وأنتجته بطريقة بسيطة.. ومبسطة تكنولوجيا.. وقليلة التكاليف حسب ما هو مطروح من معلومات. والدليل على ذلك أنه بحلول عام 1970 كان لدى الصين 6 ملايين وحدة لإنتاج البيوجاز تغطى بعض احتياجات الزراعة من طاقة ومخصبات وكان لدى الهند 2 مليون وحدة منزلية.. خلال عقدين أو ثلاثة من الزمان.. تغذى بالبيوجاز المنتج بطريقة Gobar gas system الصديق للبيئة. جدير بالذكر أنه يوجد فى مصر كثير من المتخصصين فى هذا المجال.. فى مركز البحوث الزراعية على وجه الخصوص.. يمكنهم اختيار التكنولوجيا المناسبة صينية كانت أو هندية لبساطتها.. أو الأكثر تطوراً ألمانية كانت أو غيرها من مصادر اخرى وذلك للتطبيق فى قرى الريف المصرى الحديث.. حماية للبيئة من النفايات المتوقعة وتوفيراً للطاقة. كما يوجد بقرية مشتهر بالقليوبية مركز للتدريب على أعمال البيوجاز وتطبيقاته الذى تأسس عام 1980 إلا أنه مردوده غير واضح نتيجة القصور الذاتى الذى أصابه. هل آن لنا أن نفكر فى تنشيط مشاريع البيوجاز فى مصر فى ضوء الكم الهائل من النفايات التى تتجمع وتوجد صعوبة فى التخلص منها؟.. هل هناك إمكانية لإنشاء وحدات للبيوجاز مجاورة لمحطة الصرف الصحى الرئيسية بالجبل الأصفر لتغذية مركز أو اثنين من مراكز محافظة القليوبية كمثال؟.. وهل يمكن استنساخ الفكرة وتطبيقها فى المحطات الإقليمية للصرف الصحى بالمحافظات توفيراً للطاقة من مصادر مرذولة يتعفف منها الجميع؟.. هل يمكن تطبيق هذه الفكرة فى القرى والمستعمرات السكنية للمصانع الكثيفة الاحتياج للوقود تقليلا للنفقات من جهة وضمانا لاستمرار تدفق الطاقة المحركة للمصانع من جهة اخرى؟ ودون الدخول فى تفاصيل طبيعة البيوجاز وكيميائه- يجب التنويه إلى أن إنتاج متر مكعب واحد من الغاز فى الظروف اللاهوائية والمدى الحرارى المتوسط Mesophilic range 25 35 درجة مئوية يحتاج الى 3.5 كيلو جرام حمأة مجارى Sludge او 20-30 كيلو جراما روث ماشية او 6.7 كيلو نفايات رطبة من بقايا النبات.. كما أن البيوجاز يشتعل وتصل درجة حرارة اللهب إلى 800 درجة مئوية عندما تصل نسبة الهواء فى المخلوط الغازى ما بين 8-20٪... كما يمكن حفظه وتداوله وتخزينه مضغوطاً Compressed gas ولو أن إسالته ما زالت مثاراً للجدل. كما يمكن تنقيته.. أى ترقيته الى مستوى الغاز الطبيعى Natural gas كما أسلفنا. حقيقة الأمر أن إنتاج البيوجاز فى مصر.. من فضلات الإنسان والحيوان التى لن تنتهى أو تزول ما بقى الإنسان حياً.. يجب الاعتماد عليه لا محالة. وقد يكون عدم وضوح الرؤية عن إمكانات هذا المصدر المتجدد من الطاقة هو أحد أسباب التخلف عن التطبيق مقارنة بالصين والهند... وكثير من دول اوروبا. إن إنتاج البيوجاز فى قرى «الريف المصرى الحديث» سيكون إنجازاً لإنتاج الطاقة لا إعجازاً للمحافظة على البيئة من التلوث.. كما أن تطبيق هذه التكنولوجيا تدريجيا فى قرى وادى النيل والدلتا.. التى ما زالت تعانى من مشكلات الصرف الصحي.. سيكون من أهم إنجازات الحكومات التى ستتولى شرف التنفيذ. واستكمالاً للموضوع فإن إنتاج البيوجاز من قمامة المدن هو أحد الاستثمارات المهمة فى مجال البيئة. فقد قدرت قمامة مصر بما يزيد على 75 مليون طن سنوياً!!! وقمامة المحليات تمثل ربع تلك القيمة التى تصل إلى 55000 طن يومياً. كما أن المواد العضوية القابلة للتخمر بها.. لإنتاج البيوجاز.. تزيد على 55٪ من إجمالى الكمية. ويبدو أن مشكلة جمع القمامة فى مصر.. والفشل فى إدارتها يتواكب مع دخولنا ومعظم البلاد النامية تحت مظلةStructural Adjustment Program برعاية كل من البنك الدولى وصندوق النقد الدولى للالتزام بالخصخصة ولم يكن جمعها وتداولها حكومياً فى يوم من الأيام!!! بل أهلياً فى الأساس. وقد أثبتت التجربة فشل «الزبال» الخواجة فى إدارة منظومة جمع القمامة وتدويرها.. بل ساعد على تراكمها على الأرصفة مثيراً للتندر المقترن بالاحباط. وأخيراً وليس آخراً فإن موضوعات القمامة الأخرى.. والاستفادة منها.. التى تخرج عن موضوع هذا المقال ستتم مناقشتها فى مقال قادم.