بعد 30 عاما من انفجار قنبلة توظيف الاموال الاولى قل تعاطف الناس مع ضحايا بائعى اوهام الارباح العالية والسريعة للمدخرات، اما التعاطف الرسمى فقد تلاشى فلم يعد ممكنا الحديث عن تدخل الحكومة لابتداع حلول لرد اموال الضحايا كما حدث مع عشرات الآلاف من ضحايا الشريف والريان وغيرهما فى الثمانينيات والتسعينيات، واختزل الامر فى تحويل متلقى الاموال للجنايات بتهمة النصب، أما «المودعون» فغاية ما يمكن فعله هو التغاضى عن تجريمهم بتهمة مخالفة القانون الذى يجرم ايداع الاموال لدى جهات غير مرخص لها بقبول الاموال وفقا لقانون صادر عام . 1986 استخفاف المصريين بالجريمة ظهر بوضوح فى تعليقاتهم على حكايات المستريح مع ضحاياه التى كادت تقترب من حد السخرية، فمن ناحية باتت قصص التوظيف الوهمى للاموال مسكونة فى كل بيت تقريبا منذ الثمانينيات وما استجد عليها من وقائع مشابهة طوال الثلاثين عاما الماضية تكاد كلها تتشابه فى سناريو مكرر يعتمد على اغراء الناس بارباح تتجاوز بكثير فوائد البنوك عبر المتاجرة فى اشياء غريبة كان آخرها كروت المحمول، وهى تلك التى بدأ بها ايضا المستريح قبل ان يستفحل نشاطه. ومن ناحية ثانية فإن ضحايا القضية الاخيرة لا يمكن اتهامهم بالسذاجة، فحجم الايداعات الذى يبدأ بأربعة اصفار او خمسة ويصل الى الملايين لا يمكن ان يتهم صاحبه بأنه غافل او جاهل، وانما الوصف الاقرب له انه طامع او على الاقل هو لا يرضى عن العوائد التى تقدمها الاوعية الادخارية القائمة لمدخراته.. وهنا تصبح القضية اقتصادية. ولو نتذكر معا فإن قضية توظيف الاموال الاولى ظهرت مع تراجع اسعار الفائدة على الدولار والعملات الرئيسية بشكل حاد مع بدء اصلاحات مارجريت تاتشر فى بريطانيا ورونالد ريجان فى امريكا فى بداية الثمانينيات، وكانت اسعار الفائدة قد قفزت الى نحو 20 ٪ سنويا بين اعوام 1979 و1981، وقد استمرأ المصريون بالخارج هذه الفائدة المرتفعة، فلما تراجعت بشدة استغل بعض القناصين الفرصة وعرضوا اسعار فائدة هائلة مقابل المشاركة الحلال فى مشروعات اكثرها وهمى واقلها لا يمكن ان يدر هذا العائد، وقد وجدوا ضالتهم فى المصريين العاملين بالخارج الذين كانوا يمثلون الشريحة الاساسية للمودعين فى هذه الشركات. اليوم نحن نمر بموقف مشابه وربما اكثر تعقيدا، وبسبب الازمة المالية التى اجتاحت العالم منذ 2008 تدهورت الفائدة على الدولار والعملات الرئيسية لتقترب من الصفر لاسباب تتعلق بتشجيع الناس والشركات على الاقتراض والاستثمار وبناء الاعمال. ولأن حيل النصابين لا تنضب، فإن بعض المضاربين فتحوا الباب لقبول ايداعات بالنقد الاجنبى بزعم المضاربة على اسعار العملات والذهب والمعادن والمحاصيل فى الاسواق الدولية، ورغم ان هذا النشاط ايضا مجرم طبقا لقانون النقد فإن شركات «الفوركس» تتمدد فى السوق على فترات، وتتم مطاردة هذه الشركات بمعرفة الشرطة وخبراء البنك المركزى الا ان هذه المطاردات تتم عادة، ولسوء الحظ، بعد لجوء ضحايا هذه الشركات للنيابة للشكوى من ضياع اموالهم. ومع ذلك وحتى اليوم مازالت هناك شركات او شركتان على الاقل احداهما فى التجمع الخامس تتلقى اموالا بالدولار للاستثمار فى الفوركس واشياء اخرى.. المذهل ان هذه الشركة رفعت حد قبول الايداعات من المواطنين من الف دولار الى خمسة آلاف مما يشى بالاقبال على الاستثمار بها رغم عدم المشروعية، ورغم كل التجارب المريرة السابقة. بعض الخبراء، كما ستطالع على صفحات هذا العدد، يلقون باللائمة على الجهاز المصرفى فى انتشار ظاهرة الايداعات خارج البنوك بدعوى ان المصارف يجب ان تبتكر اوعية جديدة توفر عائدا اعلى لاصحاب الايداعات الطويلة الاجل وربما يكون هذا صحيحا جزئيا، اسوة بما تفعله بنوك فى الخارج، وبالعوائد المميزة التى تمنحها بعض البنوك المحلية للودائع الدولارية الطويلة الاجل «تقترب الان من 3 ٪ ». غير ان الامر سوف يكون افضل للجميع لو فكرت الدولة بطريقة مختلفة للاستفادة من مدخرات الناس بتوظيفها فى مشروعات صغيرة بمعرفة اصحاب هذه المدخرات انفسهم لاسيما لو اقترن هذا المال ببعض المجهود الذى لا يحتاج خبرات تخصصية معقدة كالانشطة التجارية وتربية الماشية والطيور او المساعدة فى انشاء خطوط صغيرة لانتاج كثير من السلع التى يحتاجها السوق من منتجات البلاستيك والفايبر والبروبروبلين وغيرها. المشروعات الصغيرة يمكن ان توفر فرصة ثمينة لاستثمار كثير من المدخرات التى يسعى اصحابها لتعظيم الاستفادة منها حتى ولو بشكل غير مباشر عبر ايجاد التفاعل بين اصحاب هذه المدخرات والعمالة الفنية والموهوبة التى تبحث عن المال لإنتاج سلع يحتاجها السوق، وحينئذ تتحقق الفائدة لكل الاطراف بما فيها الاقتصاد الوطنى.. ولكن هذا التفاعل يحتاج لقوة مساندة لن تكون بعيدة عن الدولة ومؤسساتها التى تتولى دراسة هذه المشروعات دراسة مبدئية والجمع بين الفنيين واصحاب المدخرات وتقديم خدمات الاستشارات والتسويق وغيرها من المهام التى تساعد فى انجاح هذه المشروعات. وهذه بالمناسبة كانت احلام اصحاب شركات توظيف الاموال فى موجتها الاولى فى الثمانينيات التى منيت بالفشل بسبب الرعونة وعدم الخبرة. محدودية الفائدة على الودائع نقمة للمودعين، ولكنها يمكن ان تتحول الى فرصة لهم وللباحثين عن عمل وللاقتصاد الوطنى كله لو وجدت افكارا مبتكرة تتبناها مؤسسات قادرة ومؤهلة.. لصالح الجميع.