بات واضحا أن الحكومة المصرية تضع آمالا عريضة علي الاستثمارات الأجنبية في الفترة المقبلة لتحقيق نقلة في الاقتصاد المحلي. وبغض النظر عن الجدل حول سرعة تقلب تدفقات الاستثمار الأجنبي, وتأثرها الشديد بأقل التغيرات في اقتصاد البلد المصدر للاستثمارات و الآخر المتلقي لها, بجوار الوضع الاقتصادي العالمي, وإذا فرضنا جدلا أن مستويات الاستثمارات الأجنبية التي يدور الحديث عنها في الفترة المقبلة أكيدة ولا مجال فيها للتقلبات, فإن علينا أن نقيم الدور المتوقع لتلك الاستثمارات في ضوء ما تم التصريح به من حجم تدفقات وقنوات مستهدفة. لكن علينا أولا لتحليل الاستثمارات المستقلبية استعراض وضع التدفقات الأجنبية في مصر سابقا, بما يعكس البلدان الأكثر تصديرا لها وتفضيلاتها علي صعيد المجالات المختلفة, والتي قد تمثل مؤشرا علي مسار الاستثمارات المقبلة. تراجع صافي الاستثمارات الأجنبية المباشرة إلي مصر بصورة متوقعة في أعقاب الثورة في يناير2011, حيث بلغ في العام المالي الأول بعد الثورة2010 2011 نحو2.2 مليار دولار فقط, ثم حقق تدفقا مماثلا في العام التالي2011 2012 ب2.1 مليار دولارا, وذلك قبل أن يرتفع بشكل طفيف في العام المالي2012-2013 إلي3 مليارات دولار. وكانت الاستثمارات الأجنبية قد بلغت قبل الثورة في عامي2010 2009 و20086.82009 و8.1 مليار دولار علي التوالي. ومع تذبذب الاستثمارات في الأعوام المذكورة, إلا أن ترتيب البلدان الأكثر استثمارا في مصر لم يشهد تغيرا, فما زالت المملكة المتحدة هي المصدر الأول للاستثمارات الأجنبية في مصر, وتأتي الولاياتالمتحدة بعد ذلك كثاني أكبر مصدر للاستثمارات الأجنبية المباشرة في مصر, تليها الامارات, ثم فرنسا والمانيا والسعودية باستثمارات متقاربة تتبادل المراكز بينها بفوارق هامشية من عام لآخر. كما صاحب ثبات ترتيب البلدان المصدرة للاستثمارات الأجنبية في مصر, ثبات هيكلها بصورة كبيرة بما يعكس تفضيلات ومجالات محددة للتدفقات من كل بلد. فالاستثمارات في قطاع البترول تستمر في السيطرة علي النصيب الأكبر من إجمالي التدفقات الأجنبية, حيث حققت في عام2008 2009 نحو66.7% من إجمالي الاستثمار الأجنبي, وتراوحت حتي عام2012 2013 بين52.9% إلي73.3% من عام لآخر, وهي التدفقات الصادرة بالأساس من المملكة المتحدة عبر استثمارات شركة'BP'' في مصر. ويأتي القطاع البنكي في عام2012 2013 كثاني أكبر القطاعات جذبا للاستثمارات الأجنبية( الخليجية بالأساس), وقد تراوح نصيبه عبر الفترة من2008 2009 وحتي2012 2013 بين1.2% وحتي7.9%, وهو يتبادل موقعه مع قطاعي التصنيع والاتصالات, ويتبعهما قطاع الإنشاء والعقارات الذي يجتذب التدفقات الخليجية في أغلبه. إدراك تفضيلات رأس المال المتدفق في السابق من البلدان المختلفة يقدم مؤشرا مهما حول أوجه الاستثمارات المقبلة, فالاستثمارات من المملكة المتحدة علي سبيل المثال من المتوقع أن تتزايد في الأعوام القليلة المقبلة, وأن يكون ذلك أيضا في مجال البترول وعبر شركة'BP'' ذاتها والتي تتحدث عن خطط لاستثمار ما يقرب من10 مليارات دولار في مصر قريبا, وكذلك فإن الاستثمارات الخليجية المتوقع أن تبلغ في الأعوام المقبلة عشرات البلايين من الدولارات ستتركز أيضا في القطاعات المفضلة لدي المستثمرين الخليجيين, والتي يأتي علي رأسها الإنشاء والعقارات, القطاع البنكي, الاتصالات, والسلاسل والمراكز التجارية, وهو ما بدأت بوادره في الظهور مع الإعلان عن استثمارات اماراتية تصل لبضعة عشرات البلايين من الدولارات لإنشاء مشروعات عقارية عملاقة بين عامي2014 و2017, بجوار البدء الفعلي في إنشاء عدد من المراكز التجارية الضخمة في عدد من المناطق بمصر. ومرة أخري, فإذا افترضنا تحقق التدفقات الاستثمارية الهائلة التي يتردد الحديث عنها في الفترة الأخيرة, فإن إغفال حقيقة كونها ستتركز في الغالب في مجالات بعينها تعكس توجهات أصحاب رأس المال الأجنبي, قد يؤدي لعدم تحقيقها النتائج المنتظرة منها علي الصعيد الاقتصادي والاجتماعي. فكما هو واضح من البيانات السابقة, لا تشكل قطاعات بالغة الحيوية كالتصنيع والزراعة مقصدا للاستثمارات الأجنبية باختلاف مصدرها, وهو ما يعني حال الاعتماد علي الاستثمارات الأجنبية بصورة أساسية في الفترة المقبلة ألا تنمو تلك القطاعات بموازاة الأخري محل الاستثمار الأجنبي بما يخلقه ذلك من تشوهات في درجة تطور قطاعات الهيكل الاقتصادي المحلي, وذلك إلي جوار إغفال وجود طاقة استيعابية للقطاعات الجاذبة للاستثمار الأجنبي, وهو ما قد يخلق بها فقاعات حال زيادة التدفقات عن قدرتها علي تشغيلها بكفاءة. وسيكون بالتالي علي الدولة ألا تختصر مهمتها في جذب الاستثمار الأجنبي وتسهيل تدفقه, لكن أيضا في أن تعمل علي إرشاده وتعبئته إلي القطاعات الأكثر احتياجا إلي رأس المال من منظور الاقتصاد المحلي, وأن تستغل الاستثمارات الأجنبية لخدمة برنامج اقتصادي واضح لتحقيق أهداف النمو وعدالة التوزيع حتي تتحق أقصي منفعة من خلالها. ------------- باحث اقتصادي بمركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية