محمد هلال الصوفية تاريخ قديم، قديم جداً، قِدَم الخير والمروءة والإنسانية فلا يخلو دين أو عقيدة سماوية أو بشرية من نزعات، وذلك من غلبة الحال عليهم وغيابهم عن أنفسهم، ومحقهم عن ذواتهم، وليس هذا من حالة “الحلول والاتحاد “ التى اتهم بها الكثيرون منهم. وقد نفى ابن عربى المتهم الأول ذلك قائلاً: “من قال بالحلول فدينه معلول، ومن قال بالاتحاد إلا أهل الإلحاد”. وقد فك اللغز الذى يقع فيه العوام، عندما يطالعون كتب المتصوفة وحذر، قائلاً: “ نحن قوم يحرم النظر فى كتبنا . وذلك أن الصوفية تواطأوا على ألفاظ اصطلحوا عليها، وأرادوا بها معانى غير المعانى المتعارفة منها، فمن حمل ألفاظهم على معانيها المتعارفة بين أهل العلم الظاهر كفَر وكفَّرهم . وطريق الصوفية ليس بالسهل اليسير، ولا الهين لمن يريد، وليس مجرد كلام مرسل فلسفى، أو عاطفى مزَّوق، بل مجاهدة ورياضة روحية وجسدية شاقة، ولنسمع للصوفى الكبير إبراهيم بن أدهم يقول:” لن ينال الرجل درجة الصالحين حتى يتجاوز ست عقبات وكان والده ملكاً ولإبراهيم الخدم والحشم كماهى عادة أبناء الملوك، وروى أنه فى يوم ذهب للصيد، فناده صوت وهو على ظهر جواده: “ما خُلقت لهذا يا إبراهيم “فنزل من فوق الحصان وساح فى الأرض أما العقبات الست التى يجب أن يجوزها السالك إلى الله هى “ يغلق العبد باب النعمة والتنعم ويفتح باب الشدة، والثانى يغلق باب العز ويفتح باب الذل لله، والثالث أن يغلق باب الراحة ويفتح باب الجهد، والرابع أن يغلق باب النوم ويفتح باب السهر وإحياء الليل لله، والخامس أن يغلق باب الغنى ويفتح باب الفقر، وهو الزهد الذى قال فيه الأشعرى التبريزى من علماء القرن الثامن الهجرى، فى كتابه “سراج القلوب”: قال النبى صلى الله عليه وسلم “ الزهد كله خير “واعلم أن حقيقة الزهد أن تترك نفسك دنياك، وروحك عقباك، وتبقى مع مولاك. وهو على ثلاثة أقسام: زهد العوام وهو ترك الحرام، وزهد الخاص ترك الفضول من الحلال، وزهد أخص الخاص وهو ترك ما يشغلك عن الله تعالى . والسادس أن يغلق باب الأمل ويفتح باب الاستعداد للموت “. وهو المجاهدة كما أخبرنا المعصوم صلى الله عليه وسلم : المجاهد من جاهد نفسه . وجهاد العوام كما يقول التبريزى: جهاد مع الكفر الظاهر لقوله تعالى: “ وجاهدوا فى سبيل الله بأموالهم وأنفسهم “ التوبة 20، وجهاد الخواص مع الكفر الباطن، وهو الشيطان، لقوله تعالى:” إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا “ فاطر 6، وجهاد أخص الخاص، وهو مع النفس لقوله سبحانه:”ونهى النفس عن الهوى “ النازعات 40، وقول النبى الكريم: “ أعدى عدوك نفسك التى بين جنبيك “. والشرط الرابع مما قاله ابن أدهم هو عين مقالنا “ أن يغلق باب النوم ويفتح باب السهر “، وذلك لا يكون إلا ليلاً، وقد وصف رب العزة تلك الطائفة المميزة، المتميزة فى سورة الذاريات، بعد أن دل عليهم سبحانه ووصف مستقرهم عنده بقوله الكريم: “إن المتقين فى جنات وعيون * آخذين ما آتاهم ربُّهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين “ . وكأنى بالعبد يسأل: ماذا فعلوا يا رب لتختصهم بهذا المقام الرفيع؟ فيقول الحق: “ كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون * وبالأسحار هم يستغفرون *وفى أموالهم حقٌ للسائل والمحروم “ . والهجوع هو النوم ليلاً، وأما السَحَر فهو قبيل الفجر، ألا ترى أن المحبوب الأعلى سبحانه قد أشار إلى خاتمة ليل المحبين لذاته العلية بأنهم يستغفرون؟ ألم يكن الاستغفار مما اشتملته مواجيدهم وصلواتهم فى ليلهم؟ والجواب نعم، ولكن الاستغفار الخاتم عند أهل الحب، هو استغفار من أن تكون شائبة ما، أو خاطر قلبى أو عقلى، لا يليق بالمقام الأعلى، لم يدركه العبد قد تخلل عبادته، مثل استحسان لنفسه وعُجْب بصنيعه، أو طمع فى جنة أو خوف من نار . وذا ما ترجمته العابدة الزاهدة رابعة العدوية فى ليلها مع خالقها: “ إن كنت أعبدك طمعاً فى جنتك، فاحرمنى منها، وإن كنت أعبدك خوفاً من نارك، فاحرقنى بها، أما إن كنت أعبدك لوجهك فلا تحرمنى رؤيته” . هذا المقام نورد قصة لطيفة، فقد زار رابعة رحمها الله بعض الصالحين، وكان من دأبها أن تجرى حديثاً فى صميم صحيح العقيدة وروح العبادة، مع زوارها فسألت أحدهم: لماذا تعبد الله عز وجل؟ فقال بعد دهشة السؤال: لأنى أخاف النار . وسألت غيره، فقال: أعبده خوفاً من النار، وطمعاً فى الجنة . فدهشت رابعة لكلامهم وقالت: ما أسوأ العبد الذى ينتظر الأجر من سيده، الذى يطعمه ويسقيه ويستره ويكلأه فى كل أمره، ويرجو دخول الجنة والبعد عن النار . وقالت وكأنها تسأل: إذا لم يكن ثمة جنة ولا نار، أفلا تعبدون الله تعالى؟ فالتفت الحاضرون بعضهم إلى بعض، ثم سألوها: وأنتِ لماذا تعبدين الله تعالى يا رابعة؟ قالت: أعبده لذاته، أفلا يكفينى نعمة منه، أنه يأمرنى بعبادته . ولا أبلغ من كلمات للإمام على رضى الله عنه قال: إن قوماً عبدوا الله رغبةً فتلك عبادة التجار، وإن قوماً عبدوا الله رهبةً فتلك عبادة العبيد، وإن قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار . ولا أعجب فى الزهد من رجل، ذكره مشهور فى كتب الطبقة الأولى من التابعين، بَشَّر النبى صلى الله عليه وسلم به، وأوصى أصحابه، ذكره أبو نعيم فى “ حلية الأولياء وطبقات الأصفياء “ قال: انتهى الزهد إلى ثمانية، أولهم “ أويس القرنى” قال فيه النبى الكريم: إن رجلاً يأتيكم من اليمن يقال له أويس لايدع باليمن غير أم له، وقد كان به بياض، فدعا الله تعالى فأذهبه عنه إلا مثل موضع الدينار أو الدرهم فمن لقيه منكم فمروه فليستغفر لكم . وفى حديث أبى هريرة أن عمر وعلياً مكثا يطلبان أويساً عشر سنين لا يقدران عليه، فلما كان فى آخر السنة التى مات فيها عمر، قام على أبى قبيس جبل يطل على الكعبة المشرفة فنادى بأعلى صوته، يا أهل الحجيج من أهل اليمن، أفيكم أويس؟ فقام شيخ كبير طويل اللحية، فقال: إنَّا لا ندرى ما أويس؟ لكن ابن أخ لى يقال له أويس وهو أخمل ذكراً، وأقل مالاً، وأهون أمراً من أن نرفعه إليك، وإنه ليرعى إبلنا، حقير بين أظهرنا، فعمى عليه عمر كأنه لا يريده . يعنى ضاق أمير المؤمنين ابن الخطاب بكلام الرجل وأوصافه الدنيئة لابن أخيه، ثم نزل على من جبل قبيس وذهب إليه ليسأله عن مكانه، فأخبره الرجل بأنه يرعى الإبل بأشجار منطقة جبل عرفات . يقول ابوهريرة: فركب عمر وعلىَّ سراعاً إلى عرفات، فإذا هو قائم يصلى تحت شجرة والإبل حوله ترعى . وعندما تأكدا أنه هو الذى وصفه الرسول الكريم، أغرقاه قبلات على رأسه ويديه وهو يتعجب ويعتذر لهم، ولنستمتع روحياً برجل وصى به الرسول ولم يره، بل وأوصى من يراه أن يطلب منه الدعاء له فهو مجاب الدعوة . قالا: نشهد أنك أويس القرنى، فاستغفر لنا يغفر الله لك . قال أويس: ما أخص باستغفارى نفسى ولا أحداً من ولد آدم، ولكنه فى البر والبحر، فى المؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، ياهذان قد أشهرالله لكما حالى وعرفكما أمرى، فمن أنتما؟ قال علىّ رضى الله عنه : أما هذا فعمر أمير المؤمنين وأما أنا فعلى بن أبى طالب . فاستوى أويس قائما وقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، وأنت يا بن أبى طالب فجزاكما الله عن هذه الأمة خيراً . قالا: وأنت جزاك عن نفسك خيراً، وقال له عمر: مكانك يرحمك الله حتى أدخل مكة فآتيك بنفقة من عطائى، وفضل كسوة من ثيابى هذا المكان ميعاد بينى وبينك . قال: يا أمير المؤمنين، لا ميعاد بينى وبينك لا أراك بعد اليوم تعرفنى، ما أصنع بالنفقة؟ ما أصنع بالكسوة؟ أما ترى علىَّ إزاراً من صوف صوف الغنم الخشن ورداء من صوف، متى ترانى أخرقهما، أما ترى أن نعلى مخصوفتان متى ترانى أبليهما؟ أما ترانى قد أخذت من رعايتى للإبل أربعة دراهم متى ترانى آكلها يعنى ينفقها على الطعام ؟ يا أمير المؤمنين إن بين يدى ويديك عقبة كؤوداً لا يجاوزها إلا ضامر مخف مهزول، فأخفَّ يرحمك الله . فلما سمع عمر ذلك من كلامه ضرب بدرته الأرض، ثم نادى بأعلى صوته باكياً ألا ليت أن أم عمر لم تلده، ياليتها كانت عاقراً لم تعالج حملها، ألا من يأخذها بما فيها ولها؟ عن أصبغ بن زيد، قال: كان أويس إذا أمسى يقول: هذه ليلة الركوع، هذه ليلة السجود، وكان يتصدق بكل مافى بيته من الطعام والثياب ويقول: اللهم من مات جوعاً فلا تؤاخذنى به، ومن مات عرياناً فلا تؤاخذنى به . ودائماً ما كان يقول:إن الموت وذكره لم يدع لمؤمن فرحاً، وإن قيامه بالحق لم يترك له صديقاً. قتل رحمه الله يوم صفين سنة 37 هجرية فى جند أمير المؤمنين على بن أبى طالب . وفى رحاب الزاهد الأكبر أمير المؤمنين الفاروق عمر بن الخطاب، نذكر حكايته مع الصحابى الجليل سعيد بن عامر الجمحى، وكان من أهل الليل، ضمها كتاب “صور من حياة الصحابة “ للدكتور عبد الرحمن رأفت الباشا . قال: يا سعيد إنَّا مُوَلُّوك على أهل “حِمْصَ” . فقال: يا أمير المؤمنين ُنشدْتُك الله ألا تَفْتننى . فغضب عمر وقال: وَيْحَكُم وضعتم هذا الأمر فى عُنقى ثم تخلَّيتم عنى ! واللهِ لا أدَعُك . ثم حدث ووفد على أمير المؤمنين بعض من يثق بهم من أهل حمص، فقال لهم: اكتُبوا لى أسماء فُقَرائكم حتَّى أسُدَّ حاجتهم . فرفعوا كتاباً فإذا فيه: فلانُ وفلانُ وسعيدُ بنُ عامِرٍ. فقال: ومن سعيدُ بن عامر؟! قالوا: أميرُنا. قال: أميُركم فقير؟! قالوا: نعم، ووالله إنَّه لتمُر عليه الأيام الطوال ولا يوقدُ فى بيتهِ نارُ. فبكى عمر حتى بللت دموعه لِحيته، ثم عمد إلى أَلف دينار فجعلها فى صرة وقال: اقرؤوا عليه السلام منى، وقولوا له: بعث إليك أمير المؤمنين بهذا المال لتستعين به على قضاء حاجاتك. فنظر سعيد إليها، وجعل يبعدها وهو يقول: إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، وجعل الدنانير فى صررٍ ثم وزعها على الفقراء . ولم يمض وقت طويل حتى أتى عمر بن الخطاب رضى الله عنه ديار الشام يتفقد أحوالها فلما نزل حمص وكانت تسمى “الكُويفة” وهو تصغير للكوفة، وتشبيه حمص بها لكثرة شكوى أهلها من عمالهم وولاتهم “ حكامهم “، كما كان يفعلُ أهلُ الكوفة فلما نزل بها سألهم: كيف وجدتم أميركم؟ فشكوه إليه . قال عمر: فجمعتُ بينه وبينهم، ودعوت الله ألا يُخيِّب ظنى فيه، فقد كنت عظيم الثقة به . قالوا: لايخرجُ إلينا حتَّى يتعالى النهارُ. قال سعيد: والله إنَّى كنت أكرهُ أن أقول ذلك، أمَّا وإنه لابُد منه، فإنه ليس لأهلى خادم، فأقومُ فى كل صباح فأعجن لهم عجينهم، ثم أتريَّثُ قليلاً حتى يختمر، ثم أخبزه لهم، ثم أتوضأُ وأخرجُ للناس . قال عمر رضى الله عنه : فقلت لهم:وماتشكون منه أيضاً؟ قالوا: إنه لا يجيبُ أحداً بليلٍ. قال الصحابى الجليل: إنى واللهِ كنتُ أَكره أن أُعلن هذا أيضاً، فأنا قد جعلتُ النهارَ لهُمْ والليلَ للهِ عزَّ وجلَّ .