بروكسل ريم عزمى وهكذا لخص "سنوبي" متعته في الحياة واصفا "السعادة هي طبق إضافي من البطاطس المقلية"!سنوبي هو الشخصية الكرتونية التي ابتكرها الرسام الأمريكي الراحل تشارلز مونرو شولز في فترة الستينيات، هو كلب يتصرف كالبشر فيمشي على قدمين ويفكر بل ويتفلسف أحيانا لذا ليس من العجيب أن يبدي رأيه في الأطعمة أيضا! سنوبي يصف الشعور بحالة الشبع لدي الإنسان، فهو يسد جوعه بالكمية الكافية ثم يتطلع للرفاهية من خلال التلذذ في مرحلة أعلى. وشرائح البطاطس المقلية أو "بتات فريت" أو "بوم فريت" بالفرنسية التي اختصرت لكلمة فريت "Frites" فقط، وبالإنجليزية شيبس التي تعني مراكب أو فرنش فرايز التي تعني المقلية على الطريقة الفرنسية، ها هي تقتحم بكل جرأة عالم الوجبات السريعة لتنفذ إلى العولمة من أوسع أبوابها، إنها البطاطس المقطعة بشكل سميك أو رفيع والمقلية في الزيت النباتي وأحيانا الدهن الحيواني.ثم يضاف إليها الملح، أو التوابل، أو الكاتشب وهو الصلصة الحمراء الأمريكية، أو المايونيز وهي الصلصة البيضاء الفرنسية، أو الخردل المستردة، أو أي صلصة مبتكرة المهم أن تعجب كل الأمزجة. البطاطس لها طرق عديدة للطهو، مشوية أو مسلوقة أو مقلية أو مهروسة، كما أنها تقدم مع اللحم أو السمك ومع الخضراوات الأخرى، ويقوم صناع الأغذية بتجهيز البطاطس على هيئة مسحوق سريع التحضير لعمل البطاطس المهروسة، لكن ما إن تطأ قدمنا الأراضي البلجيكية سيشرع البلجيكيون بالترويج لمنتجاتهم وعلى رأسها ثلاثة أشياء وهي: البطاطس المقلية والشكولاتة والبيرة، وغالبا إذا كانت وجهتنا إلى العاصمة بروكسل وبالتحديد الميدان الكبير في وسطها سيبحث السائح عن الوجبة قبل كل شيء، لذا يبدأ بالسؤال عن أقرب مطعم يقدم البطاطس المقلية. هوس بلجيكي مصطلح "مول فريت Moule Frites" يعني أهم وجبة لدي الشعب البلجيكي وأيضا الفرنسي، خصوصا على الحدود في شمال فرنسا وهي مدينة ليل، وهي مكونة من المحار المسلوق مع قطعة زبد ويعرف باسم "بلح البحر" ويأتي في هذه المنطقة من بحر الشمال، ويمكن إضافة إليها الخضرة أو الكاري أو الجبن الروكفور، ويطهى في الحلة المعروفة للجميع وتقدم فيها أيا ثم ينزع الغطاء لوضع الأصداف فيها وبجانبها يقدم طبق البطاطس المقلية ومعها المايونيز حسب الرغبة، ويقوم البلجيكيون بقلي البطاطس على مرتين حتى تكون هشة من الخارج وطرية من الداخل، مرة على نار هادئة وتترك جانبا أو تحفط مجمدة ثم تقلى مرة أخرى على نار قوية، وتعتبر وجبة اقتصادية في المطاعم فتترواح ما بين 15 و30 يورو حسب الجودة أو تباع في الأسواق والسوبر ماركت، طازجة لمن يفضل طهيها بنفسه فتكون مضمونة، لا سيما لمن يدققون في النظافة، حيث يستلزم غسلها وقتا أما عملية الطهي نفسها فهي سهلة وسريعة من ناحية وسعرها أرخص من ناحية أخرى فيبلغ سعر الكيلوجرام حوالي 6 يورو كما أن كيلوجرام البطاطس من أجود الأنواع لا يتعدى سعره يورو واحد في دولة الحد الأدني للأجور شهريا يبلغ 1500 يورو، وتقدر الكمية للفرد الواحد بحوالي كيلوجرام واحد، فهي تزن كثيرا بسبب الأصداف، أما طبق البطاطس المقلية المقدم فهو غالبا 150 جراما، وإذا لم يتقبل البعض فكرة تذوق المحار فبالتأكيد لن يقدر على مقاومة البطاطس، وفي الأسواق الشعبية التي تُعرف بالسويقة الأسبوعية في شوارع المدن البلجيكية يمكن شراء البطاطس المقلية الساخنة من شاحنات مخصوصة للباعة الجائلين. ولكل شعب قصته مع البطاطس ولنروي قصة البلجيكيين الذين يقولون إن الوجبة الرئيسية للفقراء في بلادهم منذ زمن طويل كانت أصابع السمك المقلية، وفي شتاء 1680 تجمدت الأنهار بسبب البرد القارس في بلجيكا قرب مدن الجنوب منها نامور وأردين ودينان، وبالتالي اشتد جوع الفقراء عندها قاموا بتقطيع البطاطس على شكل أصابع مثل السمك وقاموا بقليها وأكلها، ونشأ خلاف بين فرنسا و بلجيكا حول أصل هذه الأكلة والمطبخ الذي تنتمي إليه، وبما أن بلجيكا تتسم بغزارة الأمطار فقد قال المغني والملحن والشاعر البلجيكي الراحل جاك بريل متأثرا بثقافته في إحدى أغنياته "هذا المساء أنا أنتظر مادلين، وهي تمطر على زهوري الليلك، إنها تمطر مثل كل أسبوع، ومادلين لا تأتي، إن الوقت تأخر بالنسبة للترام رقم 33 ، والوقت تأخر بالنسبة للبطاطس المقلية ليوجين، ومادلين لا تأتي"، كما كتب الروائي البلجيكي الراحل جاك سيمنون في كتابه "مذكرات حميمة" ليطلعنا على سره قائلا:"أحرص على تناول المول والفريت في محل صغير في شارع لولاي في مدينة لييج"، ويمكننا أن نتذكر اللوحة الشهيرة لدي جيرانهم الهولنديين بعنوان "آكلوا البطاطس The Potato Eaters" للفنان الهولندي فانسان فان جوخ في عام 1885 في قرية نوين في مقاطعة شمال برابنت بهولندا واللوحة موجودة حاليا في المتحف الذي يحمل اسمه في العاصمة أمستردام، وأرسل رسالة لأخته ويليمينا في باريس يخبرها "الذي أفكر فيه عن عملي هذا هو أن لوحة الفلاحين وهم يأكلون البطاطس التي رسمتها في نوين هي من أفضل الأعمال التي رسمتها"، هي لوحة ربما لن تُعجب الكثيرين منا لأن ليست جميلة بالمقاييس المعتادة بل تفتقر للألوان ونشاهد من خلالها وجوها دميمة تحت إضاءة خافتة فتصور البؤس الذي عاشت فيه هذه البلاد في فترة سابقة قبل أن تكون من أروع بقاع العالم حاليا، لكن جمالياتها تكمن في شحنة الإحساس العالية وحرفية الفنان في نقل واقع هؤلاء الذين ينتمون للطبقة الدنيا من المجتمع، حيث كانت أكبر آمالهم هو الالتفاف حول المائدة لتناول وجبة غنية بالنسبة إليهم، فهي تشبعهم وتجعلهم يواصلون حياتهم الشاقة، واللوحة في حد ذاتها ترمز لهذه النقلة، فالفنان الذي عاش طوال حياته في الفقر ولم يبع شيئا يذكر من أعماله هذه الأعمال تقدر الآن بملايين الدولارات، وبما أننا نتحدث عن هولندا فبالتأكيد عرفنا قليلا عن الأهمية الاقتصادية للبطاطس من خلال الفيلم المصري الشهير "همام في أمستردام"، فمن خلال فكرة بسيطة ومبتكرة يمكن الانطلاق في عالم الأعمال وتحقيق مكاسب هائلة! الاستكشاف العظيم وظهرت البطاطس في أمريكا الجنوبية، وبالتحديد في بوليفيا وتشيلي وبيرو وهي من الفصيلة الباذنجانية، وتوجد منها أشكال وألوان مختلفة ربما لا نعرفها في بلادنا العربية فهناك مئات الأصناف، وسنفاجأ أن منها المستدير والطويل ومنها الأصفر والأحمر وحتى البنفسجي، وبالنسبة للقلي يُفضل ما تحتوي على نسبة أكبر من النشويات وليست الجامدة، لأن النشا يجعلها هشة وأخف وزنا، وقام السكان الأصليون من الهنود الحمر بزراعة البطاطس منذ 400 سنة في أودية جبال الأنديز، وصنع الهنود من قبائل الإنكا مادة دقيقة خفيفة تُسمى شونو، واستخدموا هذه المادة بدلا من القمح في عمل الخبز، وكان المستكشفون الإسبان أول من أكل البطاطس من الأوروبيين، وأحضروها معهم إلى أوروبا في منتصف القرن السادس عشر الميلادي، وفي نفس الوقت تقريبا، أحضر المستكشفون الإنجليز البطاطس إلى إنجلترا ومنها انتقلت إلى أيرلندا، حيث نمت بصورة جيدة، ويجب إعادة زراعة البطاطس كل عام وبخاصة في الربيع، وذلك لأن النباتات تموت بعد نضج الدرنات، وتنجح زراعة البطاطس في المناطق التي تتراوح فيها درجة الحرارة عادة بين 15مئوية و20 مئوية، وأحيانا يطلقون على البطاطس "البطاطا" لكن البطاطا الحلوة تندرج تحت فصيلة أخرى تسمى "المحمودية" لها زهرة مميزة وهي ثمرة نشوية أيضا وظهرت في أمريكا الوسطى والجنوبية، والبطاطس غذاء شعبي سهل الهضم له فوائد عديدة فتحتوي على ألياف ملينة للمعدة، وتعتبر خير واق من سرطان الأمعاء، وبها نسبة من الأملاح المعدنية، وتحتوي على كمية كبيرة من السكريات على شكل نشويات، وهي تعتبر سكريات بطيئة أي أنها تساعد على النشاط والطاقة، ويؤكد متخصصون في مجال الصحة من خلال دراسات، أن البطاطس في حد ذاتها ليست كما يُشاع أنها غير ملائمة لمن يتّبعون الرجيم وهو النظام الصحي لخفض الوزن، فهي تحتوي عناصر غذائية مهمة للصحة، لكن هذا يتوقف على طريقة تحضيرها، ولا سيما عندما ترتبط بالقلي في الزيت مما يزيد من السعرات الحرارية والدهون، وتتصدر الولاياتالمتحدةالأمريكيةوهولندا وكندا وبلجيكا والأرجنتين وأستراليا قائمة أكبر مصدري البطاطس في العالم، كما تعتبر الأسواق الاستهلاكية الرئيسية موجودة في أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية واليابان تماشيا مع عولمة أنماط الحياة، وتطور الوجبات السريعة، وانتشار الشركات الكبيرة، خصوصا في عالم سندويتشات الهمبورجر، ومن أكبر المستوردين الصين وبريطانيا واليابان والمكسيك وكوريا الجنوبية.