محمود صلاح لم تكن أسمهان مجرد مطربة موهوبة فى عصرها فقط، لكنها كانت صوتا ساحرا من القمر وقصة مثيرة على الأرض. عرفت أسمهان طعم الفقر.. لكنها عاشت حياة الأميرات. كانت صاحبة ضحكة رائعة.. لكن عينيها كانتا بئرى أحزان ودموع. كانت حياتها قصيرة. لكنها عاشتها حتى الثمالة.. ولدت فى البحر .. ولقيت مصرعها غرقا فى ترعة! ولا تزال أغانيها وستظل تدغدغ القلوب .. ومأساتها تدمى العيون. وليس هناك إنسان يستطيع أن يروى قصة حياة أسمهان. أو الأميرة آمال الأطرش أكثر من أمير الصحافة المصرية محمد التابعى. الذى عرفها وأحبها وأحبته. والذى سجل قصة حياتها فى حلقات نشرها فى مجلة " آخر ساعة" . ثم وضعها فى كتابه الوحيد عنها " مذكرات أسمهان". لكن السيدة هدى التابعى حرم الأستاذ التابعى، كانت قد قدمت لى كنزا من أوراقه التى نشرت، والتى لم تنشر، والتى تنشرها «الأهرام العربى»، ومن بين هذه الأدوات عثرت على سيناريو باللغة الإنجليزية، كتب فيه محمد التابعى ملخصا لحياة أسمهان، بعد أن قام بتغيير السماء الحقيقية ، فأعطى أسمهان اسم "أصفهان"، وسمى نفسه "وهبة"، وهو الاسم الرمزى الذى كانت أسمهان نفسها ترسل عليه خطاباتها إلى محمد التابعى. وقد كتب محمد التابعى مقدمة لقصة حياة أسمهان قال فيها: جميع الأسماء المذكورة هنا تعتبر وهمية، لكن هذه القصة حقيقية بالفعل، فهى فى الواقع جزء من التاريخ الخفى للحرب العالمية الثانية فى منطقة الشرق الأوسط. أما قصة أسمهان والتى حملت أكثر من اسم مثل "آمال" و"إيميلى" فقد كتبها التابعى وقال فيها: ولدت الأميرة إيملى يوم 25 نوفمبر 1915، وتوفيت غرقا يوم 14 يوليو 1944. لقد كانت جميلة وذات صوت عميق ساحر. وقامت إيملى بأداء دور البطولة فى فيلمين، أولهما "انتصار الشباب" . أما فيلمها الثانى والأخير فقد كان "غرام وانتقام"، الذى أنتج عام 1943 وعرض بعد وفاتها. وعندما عرض هذا الفيلم فى إحدى دور السينما فى بغداد، حدث أن خرج شاب عراقى من السينما بعد انتهاء عرض الفيلم واشترى جريدة مسائية، وما إن قرأ فيها خبر وفاة إيملى، حتى أخرج من جيبه مسدسا، وأطلق الرصاص على رأسه! وفى نفس الوقت قام شاب سورى آخر فى دمشق، فور سماعه خبر وفاة إيملى بتجرع السم، لكنهم أسعفوه ونقلوه بسرعة إلى المستشفى، حيث تمكن الأطباء من إنقاذ حياته! عام 1925 اندلعت ثورة الدروز فى سوريا ضد الفرنسيين الذين أعلنوا الانتداب على البلاد، وضربوا جبل الدروز وقراهم بالقنابل، وقتها كانت إيملى فى العاشرة من عمرها، كانت جميلة وتتمتع بصوت أخاذ، لكن غناءها كان حزينا جدا ومليئا بالشجن، وكأنها كانت وهى طفلة تشعر بأن نهايتها سوف تكون حزينة وعنيفة! وعندما اندلعت ثورة الدروز أخذتها أمها إلى بيروت مع شقيقتها، ومن هناك انتقلن إلى القاهرة، وعشن على ثمن مصوغات والدتها لمدة شهور، لكنهن بعد ذلك بدأن يعانين الجوع! كانت الطفلة إيملى مريضة، وكانت ترتدى شبشبا خفيفا فى قدميها، عندما كانت تمشى فى شوارع القاهرة الموحلة بتأثير الأمطار، وكبرت وهى تحمل رئة ضعيفة. وبدأت الأم تحيك الملابس للجيران، وبذلك أصبحت الأسرة تكسب نقودا تكفى لشراء ضروريات الحياة، وكانت الأم "بسيمة" ذات صوت جميل، واعتادت أن تغنى وهى تعمل على ماكينة الحياكة. وكان يعيش بجوارهن موسيقى وعازف معروف يدعى ديفيد، وسمع ديفيد غناء الأم فقام بزيارتها، وسألها إن كانت على استعداد لتسجيل بعض الأغانى التى سوف يمنحها لها، وعرض عليها أن تأخذ عشرة جنيهات عن كل أسطوانة. وبالطبع قبلت الأم هذا العرض بكل سرور. وهكذا استطاعت أن تشترى الملابس لها وللصغيرة إيملى، التى التحقت بإحدى المدارس الفرنسية المنتشرة فى القاهرة فى ذلك الوقت. وذات يوم زار الموسيقى ديفيد الأسرة، وكانت الصغيرة إيملى قد عادت من المدرسة، وكانت تغنى وهى تغسل ملابسها فى الحمام. ودهش ديفيد لجمال وعمق وحزن صوتها! وقبل أن يغادر البيت كان قد تعاقد مع الصغيرة إيملى على تسجيل بعض الأغانى على أسطوانات، على أن تتقاضى عشرة جنيهات عن كل أسطوانة، وهو نفس المبلغ الذى كانت تتقاضاه أمها! وسرعان ما ذاع صيت إيملى كمغنية. وفى أحد الأيام عادت من المدرسة إلى البيت وعيناها محمرتان من كثرة البكاء، وقالت لأمها والدموع تنحدر من عينيها: إن زميلاتها فى المدرسة سخرن منها لأنها مغنية محترفة، وأعلنت وهى تمسح دموعها أنها لن تعود إلى المدرسة أبدا! كان ذلك عام 1930، وكانت إيملى وقتها فى الخامسة عشرة من عمرها. وهكذا تركت المدرسة نهائيا وبقيت فى البيت، وتحسن عقدها مع شركة الأسطوانات، وأصبحت تتقاضى 20 جنيها عن كل تسجيل. وفى عام 1933 حضر إلى القاهرة ابن عمها الأمير حسن، وذهب مباشرة إلى شركة الأسطوانات، ومن هناك حصل على عنوان الأسرة، وفوجئت الأم بظهور الأمير حسن، الذى بدا فى شدة الغضب، لكنه طلب يد إيملى للزواج، ولم تكن الأم ترغب فى أن تفقد الدجاجة التى تبيض ذهبا، فردت عليه بكل رزانة. إن البنت .. لا تزال صغيرة جدا على الزواج ! لكن الأمير حسن هدد بأنه سوف يعود إلى جبل الدروز .. ويبلغ العائلة بأن إيملى احترفت الغناء. وقال للأم: وبالتأكيد، فإنهم سوف يرسلون أحد أفراد العائلة لقتلك، وقتلها ! وهكذا اضطرت الأم إلى الموافقة. ودفع الأمير حسن لها 500 قطعة ذهبية، ووعد بأن يرسل لها 15 جنيها كل شهر، وهكذا تزوجت إيملى من ابن عمها الأمير حسن، الرجل الذى لم تحبه، ورحلت معه إلى جبل الدروز، حيث عاشت كأميرة! فى العام التالى حملت إيملى وأنجبت طفلة أسمتها كريمة .. لكنها بعد شهرين طلبت من زوجها الطلاق، لكن الأمير حسن رفض لأنه أحبها، فقالت إنها سوف تنتحر إذا لم يطلقها ، فاضطر للموافقة مرغما عندما تأكد من نيتها، وعادت إيملى إلى القاهرة .. وكانت أمها سعيدة لأنها تستطيع الآن أن تحصل على المزيد من النقود! أصبحت إيملى تغنى فى الملاهى الليلية تحت اسم "أصفهان". وكانت تظهر على المسرح دائما وهى ترتدى الأسود، وهو اللون الذى أظهر بياض وجهها .. وكانت عيناها خضراوين لامعتين ذواتى رموش طويلة. وكثيرا ما حاول أصحاب هذه الملاهى أن يقنعوها بمجالسة زبائنهم الأغنياء، لكنها كانت دائما ترفض بشدة، وسرعان ما ذاعت شهرتها فى القاهرة وأنحاء مصر .. وزاد الطلب على تسجيلاتها الغنائية وبيعت بآلاف الجنيهات. وفى إحدى الليالى تلقت إيملى باقة زهور جميلة ومعها رسالة وكانت هذه الرسالة من صحفى لامع كتب يقول: إنه أحب صوتها وأنه يحترمها لرفضها مجالسة الرجال .. ولكن هل لها أن تقبل تناول الغداء يوما ما فى أى مطعم؟ وبإمكانها أن تحضر معها صديقة أو اثنتين إذا أرادت، وأنهى الصحفى رسالته قائلا:"إننى ليست لدى أية نية سيئة على كل الأحوال"! وقبلت إيملى دعوة الصحفى اللامع. وتناولت معه الغداء مرة ثم مرتين.. وتحول ذلك إلى موعد يومى .. وكانت دائما تذهب لمقابلته بمفردها، لأنها وثقت به .. وبعد مرات قليلة من هذه اللقاءات وقع حبه فى قلبها. وذات مساء أثناء خروجها من الملهى الليلى الذى تغنى فيه، طلبت منه أن يصطحبها إلى شقته حيث يمكنها تناول العشاء متأخرا، وكان هو مسرورا وفى غاية السعادة من ذلك! وفى شقته سألته ما إذا كان لديه بعض الويسكى أو الشمبانيا. فقال لها متبسما: الاثنين ! وأخبرته أنها ورثت صوتها الجميل عن أمها أما عن والدها الراحل فقد ورثت منه حب شرب الخمر، وهكذا ظلت تحتسى الكثير من الويسكى. فسألها: لماذا تشربين كثيرا ؟ أجابته ضاحكة: إن قلبى يتحطم عند رؤيتى الكأس فارغة، ويتحطم عند رؤيتى للكأس مليئة، لذا على أن أملأها وأشربها! وقضت أصفهان الليلة فى بيته. وفى اليوم التالى أحضرت ملابسها وأحذيتها لتقيم مع الرجل الذى أحبته. ولم تعترض أمها لأنها كان لها أيضا حبيب، لم تستطع أن تخفيه عن ابنتها! وهكذا أصبحت إيملى أو أصفهان حبيبة الكاتب الصحفى. وللمحافظة على المظاهر، اشترى لها خاتما ذهبيا لبسته، وأذاعا بين أصدقائهما أنهما مخطوبان وسوف يتزوجان فى نهاية العام. حدث ذلك كله فى مارس 1939 .. وكان عمر إيملى وقتها 24 عاما، بينما كان الكاتب الصحفى وهبه فى الأربعين من عمره. ثم اندلعت الحرب العالمية الثانية فى سبتمبر 1939. واستمرت إيملى أو أصفهان ووهبه فى الذهاب إلى الحفلات والأندية الليلية، لكنها لم تعد تغنى فى هذا الأندية، وكانت فقط توافقه على أن تغنى فى حفلات خاصة فى المنازل، مثل حفلات الزواج وما شابه. ومضى عام 1940 ..وقالت إيملى لوهبه إنها لا تستطيع الاستمرار فى العيش معه كحبيبة فقط، فقد كانت تنحدر من عائلة كريمة، وكان العديد من أفراد المجتمع فى القاهرة يعرفون عائلتها. وباختصار فقد كانت تشعر بالعار من هذه الحياة ومن نفسها، لكن وهبه رفض الزواج منها، وكانت النتيجة أنهما انفصلا، برغم أن كلاً منهما كان لايزال يحب الآخر!