لم يكن علمُ الفتى بأمورِ الدين كما ينبغي، وكان ما فى جعبتهِ من علمٍ دينى لا يتعدى ما يحتاجه لقضاء الصلوات وصيام رمضان. وكان له من الأصحاب من هُم على النقيض، فمنهم من نشأ لأسرةٍ متدينه ونَهلَ من العلمِ الدينى وهو بين جدران بيته ومنهم من تَبحَّر فى كتبِ الدين فإزداد بها علماً. ولم يكن يُدرك إلا بعد منتصف العمر أن هناك ثلاثة من الأمور هى فرض عين على المؤمن، «فقه العقيدة» «وفقه الفرائض»،«وقراءة القرآن مجوداً» ، أى إن الدين هو علمٌ نتعلمه بعد أن يكون عقيدة محلها القلوب. وكان من عادةِ أصحابِه أن يَهدُوه كتباً صغيرةٍ للأدعية مما جاء فى الكتاب والسُنَّة. وكان صاحبُنا يُضاحِكَهُم ويقول - من بابِ الفلسفةِ العمياء - إن الله عزّ وجَل أعلم بما فى القلوب ولا حاجةَ به للدعاء... لم يكن يعلم أن الدعاءَ عبادة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الدعاء هو العبادة، ثم قرأ من سورة «غافر» الآية: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْۚ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)}. كما أنه قال صلى الله عليه وسلم: «إنّ اللهَ يَستَحِيى إذا رفَع إليهِ عَبدُه يَدَيْه إليهِ -أى إلى السّماء- أن يَرُدّهُما خَائبِتَين). وهكذا سارت بصاحبنا الحياة إلى أن أصابه من الابتلاء الجَلل ما أصابه، فلم يدرك نفسه إلا وهو ساجدٌ فى ختام صلاته مبتهلاً إلى الله بما فتح عليه من دعاء أملاه عليه قلبُه، فوجد فيه الحلاوةَ كلها وارتاحت نفسه راحةً لم يكن ليتوقعها و تعجب لهذا الأمر إلى أن قرأ لاحقا. عن أبى هريرةَ رضى الله عنه، أنَّ رسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أقربُ مَا يَكونُ العبْدُ مِن ربِّهِ وَهَو ساجدٌ، فَأَكثِرُوا الدُّعاءَ». (رواهُ مسلم). فقرب الروح من خالقها يسعدها و يبعث فيها السكينة. وكلمة «الدعاء» لها معانٍ كثيرة ونُدركها واضحةً فى كتابِ الله، فإذا أُستخدمت بين الناس فهى تعنى «التسمية والنسب». كما فى قوله تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآَبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آَبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِى الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5)}. «الأحزاب» وقد تعنى بين الناس أيضاً «النداء» كما جاء فى قوله تعالى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)} «النور». وإذا جاء «الدعاء» من الرسول صلى الله عليه وسلم للناس فهى «دعوة» لدين الله، كما جاء بالكتاب المبين، {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِى هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)} «النحل». أما إذا كانت من البشر للخالق فهى بمعنى «الطلب والرجاء والتضرع إليه سبحانه وتعالى». والدعاء هنا هو علاقة خاصة بين العبد وربه ، ترتبط جوانبها وشكلُها بدرجةِ إيمانِ العبدِ بربِه وثقتِه فى أنه مُجيب. وهذه العبادة الحلوة والمُحببة لقلوب المؤمنين تكون تلقائية فى معظم الأحيان ويمارسها العبد دون قواعد. ولكننا نتعلم من الكتاب والسُنَّة أن لها أصولا فمن المَفاز أن نَتَّبِعَها. ويُعلمنا الخالق فى سورةِ الأعراف أن الدُعاء يجب أن يكون فى خشوعٍ وبصوتٍ خَافِت غيرِ صاخب، {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} «الأعراف 55». وفى سورة الإسراء كما يلى حَثٌّ من اللهِ تعالى على أن ندعوه بأسمائِه الحسنى كما أنه - جَلَّ فى عُلاه - قد وصف الدعاء بأنه صلاه. {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا} «الإسراء .110» ومما لا شك فيه أن أفضل الدعاء هو ما نتعلمه من القرآن والسنة، ويُفضَّل تَجنُّب بعضِ الأدعية البعيدة عن مفاهيم الدين الصحيح، التى تبدو كالغناء أو السَجْع ولم تَرِد على لسانِ رسولِنا الكريم صلى الله عليه وسلم. ومِن الأمثلةِ القرآنية للدعاء، ما دعا به إبراهيم عليه السلام فى قوله تعالى:{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) البقرة : 127. وكذلك الدعاء بعد نهاية مناسك الحج، فله أصوله، فيقول ربنا تبارك وتعالى عن هذا الدعاء: {فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِى الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِى الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِى الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) «البقرة». وًكذلك علمنا الله تعالى كيف ندعو عند الحروب فى سبيل الله فى قوله:{وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250)} «البقرة». من كل ما تقدم نتعلم من كتابِ الله وسُنَّةِ رسولِه صلى الله عليه وسلم حلاوةَ الدعاء كعبادةٍ محببةٍ للقلوب تربِط بين قلب المؤمن وبين ربه وتجعلُ من الكتابِ والسُنَّة مِنهاجاً له فى حَياتِه، كما نتعلم ضرورة الالتزام بما أمر الله من خشوعٍ فى الدعاء، وأن ننهل فى دعائنا مما جاء فى القرآن وعلى لسان نبينا الكريم صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} «آل عمران :8».