كاتبُ هذا المقال سيموت وقُرَّاء المقال سيموتون، بل كل الكُتَّاب فى هذه الصحيفه سيموتون وكل من يقرأها ومن لا يقرأها سيموت، و ما هى إلا عدة عقود من السنين، وستمتلئ هذه الصحيفة التى بين يديك بكُتَّابٍ آخرين وتقرأها أجيالٌ تالية من البشر. ومَثَلُ الحياةِ الدُنيا كَمَثَلِ هذه الصحيفة، فمع تَقَلُّب السنوات تَتقلب أجيالٌ من البشر، يموتون تِباعاً حتى احتضن باطن الأرض أجساداً تفوقُ ما فوقَها. وهذه هى سُنَّة الحياة فلا يدوم فيها إلا وجهُ الله. إذاً فالموت علينا حق، وهو واقعٌ قادمٌ يهرب أغلبُنا من ذِكرِه، وهو أمرٌ - بلا شك - غيرُ مُحَبَّبٍ لقلوب الناس. ولا يوجد أدَلُّ على هذا من تلك المشاعر التى انتابتك عزيزى القارئ وأنت تقرأ هذه المُقدمة الكئيبة لهذا المقال، ولكن لا مَفر فالموت قادمٌ إلينا لا محالة. قال تعالى فى سورة آل عمران - الآية 185: "كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۖ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ" وإن كان الموتُ حقيقةً أصيلة و جزءا من هذه الحياة وخاتماً لها، فهذا لا يعنى أنه ضيفٌ مرغوبٌ فيه ولكنه "مصيبة" كما أخبرنا ربُ العِزّةِ سبحانه وتعالى فى سورة المائدة - فى سياق الآية 106 " ................ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِى الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ ........." ولهؤلاء الساعين إلى فَهم الحياة الدنيا بما فيها، وإدراك ملمسها الحقيقي، فمفازُهم أن يقتربوا من الموت فَهماً وإدراكاً، فهو المفتاح لإدراك معانيها وفهمِ أسرارِها. وأشكالُ الموتِ كثيرة، فقد يكون الموت طبيعياً كالذى يحدث مع تقدم السن فيما يسمى بالوفاة الطبيعية، وإن كانت تحمل فى طياتها أمراضاً شتى، أو أن يكون نتيجةً لمرضٍ واضحٍ للعيان، ولم تنجح حِنكةُ الاطباء فى علاجه وقد يكون بسبب حادث ما. ويظل أعظم أشكال الموت، هو أن يموت المرءُ شهيداً، أى أن يموت فى سبيل الله و الوطن و دون غرض دنيوي. وللشهيد منزلة عظيمة فى الإسلام، وقد أتى ذكر هذا الأمر فى العديد من الآيات القرآنية منها الآية 169 من سورة آل عمران. "وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ" والشهيد هو من مات دفاعاً عن ماله أو عرضه أو وطنه أو دينه أو مات وهو ساعٍ للعلم، وكذلك المبطون والمحروق والغريق. وكل هؤلاء يُغسَّلون قبل دفنهم إلا الشهيد فى معارك الحق ضد أعداء الوطن، فإنه يُكَفَّن فى زيهِ العسكرى ويُدفَن دون غُسل. ولأن أقدارَنا تُولد معنا وكلها فى اللوح المحفوظ عند الخالق، فإن كلا منا معلوم عند الله يوم مماته وكيف سيموت، لكن القدر يتغير بالدعاء وكم من شهدائِنا ذكر أصحابُهم كيف أنهم دعوا الله أن يُميتهم شهداءً فاستجاب لهم وكانت لهم هذه الدرجة العالية، وفى دعاء سيدنا إبراهيم عليه السلام فى الآية 163 من سورة الأَنْعَام: "قُلْ إِنَّ صَلَاتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِى لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ". وهنا نرى كيف تمنى نبى الله أن يكون مماته لوجه الله رب العالمين أى - كما فسره العلماء - أن يموت شهيداً. والشهداء هم من اشتروا الدنيا بالآخرة، ووضعوا أرواحهم على أكُفِّهم فداءً للوطن وفى سبيل الله، ولهم من الله أجراً عظيماً. قال تعالى:"فَلْيُقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ ۚ وَمَن يُقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا" النساء - الآية 74. واليوم ونحن فى حربٍ ضد أعداء الوطن، ومن اتخذوا من الدين ستاراً للإرهاب وتحقيق المطامع، يسقط بين الحين والفين منا الشهداء. ورغم أن خسارتنا فى هؤلاء الأبرار لا تقدر بالدنيا كلها، فإننا يجب ألا ننهار حزنا وألا نذرف الدموع أو نشق الصدور أو أن ننتحب لفقدانهم فهم فى مكان أفضل، هم فى جناتٍ ونعيم. فمتى كان النصر بلا شهداء؟ وقد رأيت بعينى على أرض سيناء ظابطاً من الصاعقة يتحدث إلى جنوده ويخبرهم أنه إذا ما صارت خدمتهم العسكرية إلى أرض سيناء، فإنما كُتب لهم الجهاد على أطهر بقاع الأرض التى تجلّى فيها ربُ العِزّة لنبى الله موسى وأن أفضَل ما يُمكن أن يحدث لأيٍ منهم، هو أن يموت شهيداً على هذه الأرض المقدسة. عندها أدركتُ وتأكدت أن هذا الجيش منتصرٌ بأمرِ الله، فأيُّ عدوٍ هذا الذى سيتمكن من قهرِ جيشٍ قوامه ملايين الجنود والضباط، كلٌ منهم هو مشروع شهيد ، لا يهابون الموت ومن ورائهم شعبٌ أبيّ لا يقبل إلا النصر. من يعش بلا مبدأ يموت بلا شرف، والشهادة هى ميتة الشرفاء. فإن أراد أعداؤنا النصر فلا مفر من أن يقتلونا جميعاً، وهذا لن يحدث. اللهم أمِتْنا شهداء. النصر لنا. النصر لنا. النصر لنا.