يمكننا تعريف المواطنة بأنها “عملية شاملة تتجاوز المساواة لتصل إلى العدالة بواسطة ربط الحقوق السياسية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية”. والمواطنة تعزز التعددية عن طريق الانتماءات المتعددة و”مأسسة الهوية” (أى تحويل الهوية إلى المؤسساتية). ولكونها ديمقراطيَّةً بطبيعتها فهى لا تقف عند حدود الولاءات الدينية والعرقية والنوعية وتعزز التعددية. وسأقدم شرحًا تفصيليًّا لهذه السمات فيما يلي: تجاوز المساواة نحو العدالة إذا انحصرت المواطنة فى المفهوم السياسى وحده، فهى لا تنجح فى خلق مجتمع المساواة والتعددية. فالمواطنة هى المفهوم الأشمل الذى يتجاوز عضوية الدولة والمشاركة السياسية، لكى يضم أيضًا الحقوق الاجتماعية والثقافية والاقتصادية. وهذه الحقوق - بالاستناد إلى الديمقراطية - هى التى تبنى المجتمع المدني.
المواطنة تتجاوز المساواة وترتبط بالعدالة، فهى نتاج الكفاح المشترك، وهى مفهوم سياسى يتنامى من خلال التعايش ويشيد مجتمع المساواة. لكن المساواة لا تتحقق على المستوى السياسى فحسب، إذ إن المواطنة السياسية البسيطة ستفشل تمامًا إن لم ترتبط بالأبعاد الاجتماعية والاقتصادية للمواطنة.
فالمواطنة السياسية التى تنحصر فى المساواة السياسية فقط تنقص من قدر المواطنة إلى مجرد نشاط سياسيٍّ نظري، كما تفرض على تطبيقها قيودًا ثقيلة. لكن العدالة، كمفهوم سياسى واقتصادى واجتماعي، هى قلب المواطنة؛ حيث إن الربط بين المفاهيم السياسية والمظهر الثقافى سوف يؤكد الأول وينمِّى الثاني.
ولتحقيق مواطنة فاعلة يستلزم الأمر توافر قوانين مكتوبة ومنظمات تقوم على تطبيق هذه القوانين بفاعلية وكذا جماعات ضغط تحميها من خلال نفوذها مع النخب الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية. وتمتلك منظمات المجتمع المدنى القدرة على ذلك. وفى العالم العربى - يرتبط تشريع القوانين ارتباطًا وثيقًا بالدين وكذلك بالمجتمع العلماني، وتسهم منظمات المجتمع المدنى مثل المنظمات غير الحكومية فى كل هذه المستويات من خلال المنظمات الدينية التى تيسر تشريع القوانين وكذلك المنظمات الشعبية والقاعدية التى تطبق البرامج فى أرض الواقع.
تعزيز التعددية تقوم المواطنة على المفهوم التعددى الذى يشجع تنوع المفاهيم والانتماءات ويدعو إلى كيانات اقتصادية وثقافية ودينية وعرقية وسياسية متنوعة. وكما أن العروبة تتميز بكونها شاملة فى طبيعتها؛ إذ تتعايش مع مختلف الديانات والتواريخ والثقافات، هكذا المواطنة أيضًا تتضمن الحقوق السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية. إنها حالة إيجابية تظهر من خلال التنمية الداخلية، وتتحقق عبر الكفاح من أجل الاستقلال الاقتصادى والسياسى والاجتماعي. وهنا يكون دور المجتمع المدنى هو بناء قدرات الأفراد والمؤسسات على استخدام الديمقراطية كأداة للمواطنة. إن المواطنة هى غاية لا يمكن تحقيقها إلا من خلال هذا الكفاح الشامل.
يتميز المجتمع المدنى بتوجهه الحضري، ويبدو جليًّا أن التحول نحو الحضر (التحضر) مع تنظيماته الجديدة، يمكن أن يسهم فى إعادة هيكلة الهوية. والتحضر فى ظل وجود تنظيمات متعددة يخلق انتماءاتٍ وولاءاتٍ ذات صيغة تعدُّديَّة والتى ينتج عنها هويَّات متعدِّدة. وكما أشرت فيما سبق، فإن المنظمات غير الحكومية يمكنها أن تسهم فى مثل هذه الهويات المتعدِّدة. وهذا هو ما يثمر تعدديَّةً حقيقيَّةً على أرض الواقع. وفى هذا السياق، يسهم الدينُ فى تشكيل أساسات الهويَّةِ وكذلك فى تنظيمات المجتمع المدني. إن مأسسة الهوية (أى إضفاء الطابع المؤسسى على الهوية) من خلال المنظمات والتنظيمات المختلفة يسهم فى ترسيخ المفهوم النسبى للهوية، وكذا إمكانية اختيار هويات جديدة.
إن التحضر الذى يشجع تنظيمات المجتمع المدنى الجديدة يسهم فى بزوغ هويات جديدة وتحويل الهويات التقليدية إلى هويات ذات تأثير إيجابى وفعال على عملية بناء المجتمع. غير أن هذه ليست وصفة سحرية تحدث تلقائيًّا فى المجتمعات التى تتحرَّك نحو الحضر وتخلق تنظيمات جديدة للمجتمع المدني. كما أنها تثبت التعددية على شتى مستويات المجتمع وكذلك تؤسس اتجاهات ثقافية جديدة تساند هذه المفاهيم.