عبرت الروائية والإعلامية السورية ديمة ونوس، عن فرحتها بوصول روايتها «الخائفون» للقائمة القصيرة لجائزة الرواية العربية «البوكر» لكن هذه الفرحة كانت ناقصة، بسبب الوضع المريع فى سوريا والموت والقتل الوحشي، الذى يتعرض له السوريون فى الداخل كل لحظة، وتضيف ونوس أن الجوائز مهمة بشكل عام وفى منطقتنا بشكل خاص، أولاً بسبب تردّى وضع الثقافة عامة، وأن الكاتب لا يستطيع اعتماد الكتابة مهنة له.
ما الهاجس الذى يحرك ديمة ونوس، لماذا تكتبين، وماذا تنتظرين؟ ليس الهاجس ما يحرّك الكتابة فالكتابة، هاجس بحدّ ذاتها، ببساطة لا أجيد سوى الكتابة، ولا أعثر على طمأنينة مفقودة إلا عندما أكتب وألوذ بالكلمات واللغة وذلك الصمت المخاتل، فأنت وإن كنت تكتب بصمت وهدوء، إلا أن عالماً من الضجيج يعبر إليك. الكتابة عالم مواز، يؤنسنى العيش فيه. تعددت ألوان إبداعاتك ما بين القصة والرواية والإعلام والصحافة، فهل يختزل أحدها الآخر؟ القصة تتلاقى مع الرواية ولا يمكن فصلهما. التنقّل بين القصة والرواية سلس ولا يحتاج كبير عناء، حتى إن احتاجت الرواية إلى صبر أكبر وجلد قد لا تحتاج إليه القصة. أما الصحافة فتختلف تماماً خصوصا فى منطقتنا التى تعانى ما تعانيه من كبت للحريات وقمع للرأى الآخر واعتقال وتعذيب وقتل. الكاتب لا يستطيع للأسف أن يعتاش من الكتابة فقط، لذلك يلجأ معظم الكتّاب إلى مهن أخرى متنقلين بين كتابة المقالات أو البرامج التليفزيونية أو التدريس. أحب عملى كمعدّة ومقدّمة لبرنامج فكرى سياسى بعنوان «أنا من هناك» على قناة «الأورينت» السورية. أرى فيه مكاناً آخر مثله كمثل الكتابة يساعدنى فى خلق عالم مواز، حقيقي، صريح، شفاف. ما قراءتك للمشهد الثقافى والحركة الأدبية اليوم فى سوريا؟ أستطيع الحديث عن تجربتى فى الاطلاع على الثقافة السورية بعد انطلاق الثورة فى العام 2011. فما إن كُسر حاجز الخوف، حتى تغيّر مفهوم الثقافة السورية إن كان فى الأدب أو الفن. الثورة لم تنطلق فقط ضد النظام فى سوريا، بل أيضاً ضد الحالة الثقافية التى كانت سائدة طوال عقود. جاءت الثورة ضد الطاغية وضد كل ما هو مكرّس ثقافياً واجتماعياً وسياسياً. هذا ما يفسّر ربما اختفاء جيل المثقفين المكرّسين أو التزامهم الصمت، مع استثناءات قليلة، بينما شاهدنا جيلاً آخر، ينزل إلى الشارع ويثور بكل الوسائل التى يمتلكها، من الأغانى إلى الموسيقى إلى الشعارات إلى الرواية واللوحة والمقطوعة الموسيقية. نحن اليوم أمام سوريا جديدة. ولا يعنى هذا بالضرورة أننا نتحدث عن سوريا داخل حدود البلد. سوريا اليوم، حاضرة ثقافياً فى كل بلدان الشتات. كيف استقبلت وصول روايتك «الخائفون «إلى القائمة القصيرة لجائزة الرواية العربية «البوكر»؟ أفرحنى الخبر بكل تأكيد، لكن فرحتى ناقصة بسبب الوضع المريع فى سوريا والموت والقتل الوحشى الذى يتعرض له السوريون فى الداخل كل لحظة، جائزة البوكر جائزة عريقة، ووصول روايتى إلى القائمة القصيرة يعنى الكثير بالنسبة إلي. ما أهمية الجائزة بالنسبة لك؟ وبشكل عام للكاتب السوري؟ هل تساعد فى إيصال صوت القضية السورية وتسليط الضوء عليها؟ الجوائز مهمة بشكل عام وفى منطقتنا بشكل خاص. أولاً بسبب تردّى وضع الثقافة عامة، وكما ذكرت سابقاً الكاتب لا يستطيع اعتماد الكتابة مهنة له. بالنسبة إلى سوريا أو إلى غيرها من البلدان، ليس مهمة الرواية إيصال القضايا الكبرى وتسليط الضوء عليها. نعرف أن الرواية العربية شكّلت عبر عقود مرجعية تاريخية وتوثيقية.. نعرف أن الرواية فى منطقتنا كانت تاريخاً موازياً بعد أن تعرّض التاريخ للتزوير إلا أنه من المجحف تحميل الرواية كل هذا العبء. ماذا عن روايتك «الخائفون» لماذا هذا العنوان؟ ببساطة لأنها تتحدث عن الخوف. لا بل عما هو أعمق من الخوف: الخوف من الخوف. تقولين «أنا أكتب عن «الخائفون» فى مدينة عاشت الخوف، ليس أمراً بديهياً لمواجهة ذلك العجز المربك» أى عجز وأى خوف تقصدين؟ كتبت «الخائفون» فى بيروت. كتبت عن الخوف فى مدينة تعيش الخوف، تتعايش معه منذ سنوات. ولا تزال رائحته تفوح فى بيروت حتى إن حاولنا تجاهلها. لذلك قلت إن الكتابة عن الخوف السورى فى مدينة كبيروت ليس أمراً بديهياً ولا بسيطاً. فأنت تكتب عن مشاعر، لا تزال طازجة فى لبنان الذى تحكمه ميليشيا ويرهبه حزب! يرى البعض أن ديمة ونوس اختبأت خلف قناع سلمى، بطلة الكاتب وسيم لتكتب بقلمه مقاطع من سيرتها الذاتية لا سيما طفولتها، مسترجعة صورة والدها الذى لمحت إليه ولم تسمه لماذا هذا الاختباء؟ ليس اختباء! قلت فى لقاءات سابقة إن الكاتب ليس منفصلاً عما يكتب. المسافة بين المعاش والمتخيّل، هشّة. لم أتقصّد الكتابة عن أبى وطفولتي. أنا لست سلمى ولست سليمى، لست «نسيم أو كميل».. إلا أن ذاكرتى موزّعة على كل تلك الشخصيات. التجربة الشخصية مهمّة فى الكتابة والخيال موصول بالواقع. هل الرواية تروى الواقع السورى بعين الكاتبة والمثقفة؟ بالتأكيد لا أستطيع الابتعاد عن الواقع السوري. لم أكتب عنه بعين المثقفة ولا الكاتبة! كتبت بعينيّ كل الصور والمشاهد التى التقطتها عن الخوف منذ طفولتي. الرواية ليست مادة تثقيفية بالمعنى المباشر للكلمة.. الرواية قصة، حدوتة باللهجة المصرية، حياة أخرى لأشخاص متخيّلين. أرى أن الكاتب والقارئ لا يكتفيان بحياة واحدة. الكاتب يرنو إلى عيش حيوات أخرى عبر الكتابة، والقارئ عبر القراءة. إنها تجربة فريدة وممتعة، التعرّف على عوالم أشخاص متخيّلين، مرافقتهم، اللقاء بهم، اختبار مشاعرهم وتاريخهم وملامحهم. لماذا قررت استدعاء التاريخ وربطه بالأحداث الجارية فى روايتك «الخائفون»؟ لم أستدع التاريخ على الإطلاق. وأنا غير مولعة بالرواية التاريخية بالعموم. استعرت ذاكرة قريبة جداً، لا تتجاوز مدتها الثلاثين عاماً. للحديث عن الخوف السورى لا يمكن المرور بصمت أمام أحداث هزّت السوريين وجرّحت بهم وسرقت أملهم بإمكانية التغيير. مجزرة حماة المروعة ليست تفصيلاً عابراً فى حياة السوريين. وكل القمع الذى لحق بها وصولاً إلى انطلاق الثورة عام 2011، كان مفصلاً أساسياً فى التاريخ المعاصر لبلد عاش سكّانه كل أنواع الخوف. كيف يمكن للأدب أن يحمى التاريخ من التزوير خصوصا فى تلك الظروف السياسية المتغيرة؟ الرواية بشكل عام هى التاريخ الحقيقى للأوطان والمدن والأماكن والأشخاص. لا تحتاج الرواية الاتكاء على التاريخ لتكتبه! لأنها ببساطة هى التاريخ بعينه. هناك فرق بالتأكيد بين التاريخ الحقيقى الذى يتجلّى فى الرواية عموماً، وبين الرواية التاريخية التى تأخذ من أحداث موثقة مسرحاً لحبكتها وأبطالها. فى بلداننا، كان التوثيق جذاباً بالنسبة إلى معظم الكتّاب العرب. لولا التوثيق لما استطعنا معرفة حقيقة ما جرى ويجرى فى أقبية المخابرات وفى السجون. ماذا عن المنفى، الوطن، الأرض.. فى أعمالك؟ لست مأخوذة بفكرة الوطن والأرض، الوطن هو حيث تعيش مع أشيائك الخاصة ومع أشخاص تحبّهم، وفى مكان تصان فيه حقوقك وحريتك. لا أعرف إن كنت أعيش اغتراباً بالمعنى التقليدى للكلمة. علاقتى بالأمكنة والمدن مرتبكة. فأنا لم أكن سورية فى دمشق ولست مغتربة خارجها! علاقة الكائن السورى بوطنه غائمة وواهمة. إن ضاعت حقوقك، ضاع الانتماء وباتت الهوية مجرد بطاقة تافهة تحمل صورتك واسمك. تصبح أسيراً لتلك البطاقة، تصبح ببساطة مجرّد بطاقة. عندما كنت أعبر الحدود من لبنان إلى سوريا بصحبة أبنى (عندما كان متاحاً لى الدخول إلى بلدي)، كنت أرتبك أمام الحاجز الأمني. جواز سفرى يحمل اسم مدينة دمشق حيث استصدرته، بينما يحمل جواز سفر ابنى اسم مدينة إدلب.. نظرات ضابط الأمن كانت تصيبنى بوحشة قاتمة عندما يقرأ كلمة “إدلب” على جواز سفر ابنى البالغ من العمر حينها ست سنوات! مجرّد أن مدينة إدلب كانت من المدن الثائرة حينها، يصبح ابنى “متهّماً”.. كيف لى أن أشعر بأننى سورية إن كان انتمائى إلى مدينة سوريا دون أخرى، يثير الريبة والشكوك؟ تتفاوت آراء بعض الكتاب والأدباء حول الوضع السورى، كيف ترين هذا التفاوت؟ وهل خزل بعض الكتاب قراءهم؟ هذه الحالة ليست سورية فقط، بل عربية أيضاً! نرى اليوم الكثير من المبدعين العرب فى حالة غيبوبة عما يحدث. حالة التخاذل تلك محزنة بالفعل ولا تخلو من التعالي، كما أنها تفضح واقعا أنهم كانوا يعيشون منفصلين عن الواقع، بعيدين من الشارع والناس، متكبّرين على محيطهم. لا يمكن الفصل بين مواقف المبدع ومبادئه الأخلاقية وبين أعماله الإبداعية. هل هناك مشاريع مقبلة لك تعكفين عليها؟ فى الحقيقة أنا أكتب حاليا عن الذاكرة فى رواية بدأتها قبل مدة.