حسناء الجريسى - «مصر دولة عظمى ثقافيا وحضاريا.. هذه الحقيقة ستظل ثابتة، وراسخة، ومن يحاول النيل منها، أو حتى إهمالها عابرون.. حتى لو كان نظاما ينتمى إلى الإسلام السياسى، أو يضم بين أركانه بعض المتشددين ضد حرية الفن والإبداع». لكن هذه الحقيقة لا تمنع أن نتفهم تخوفات قطاعات من المبدعين والمثقفين على حرية الإبداع فى الجمهورية الثانية التى تقودها جماعة الإخوان المسلمين بشراكة مؤثرة للسلفيين، خصوصا فى ظل ربطها بعدد من وقائع تقييد حرية الإبداع ومصادرة الصحف و غيرها. لكن يبقى وجه آخر لهذه الحقيقة، وهى أن مصر لن تسمح لأى فصيل بتجريدها من هويتها الحضارية، وأهم أسلحتها الناعمة، وهى الثقافة والإبداع، وأن جماعة الإخوان الحاكمة التى قدم مؤسسها الأول حسن البنا مسرحا متميزا، وكان من أبرز مشجعيه، هى أذكى بكثير من أن تقفز فوق هذه الحقيقة، وأن العلاقة بين الإخوان والمبدعين لن تتجاوز فى أغلب الأحوال «شئ من الخوف»، وهو ما عبرت عنه آراء مجموعة من المثقفين والمبدعين فى هذا التحقيق. يقول القاص سعيد الكفراوى إن الثقافة والفن لا يرتبطان بالدين، وإنما بازدهار الأمم وتقدمها فى كل مناحى الحياة،مشيراً إلى أن الثقافة العربية كانت مزدهرة على كل الأصعدة سواء فى التعليم أم الفلسفة والاتصال بالآخر، لكن منذ انغلاق الدولة الإسلامية وسيطرت ما يسمى بالإسلام السياسى بكل فصائله التكفيرية،حدث تكفير للمجتمع، وفرضت محظورات على حرية الرأى والإبداع من الداخل والخارج، ويؤكد الكفراوى أن الخوف على مستقبل الثقافة والفن فى زمن الإخوان لم يكن من فراغ، فتلك الجماعة لها برنامجها الخاص القائم على فرض شرع الله وأخونة كل فصائل المجتمع،وهم ضد الدولة المدنية بشكلها الحديث وقوانينها وأحزابها وديمقراطيتها، لذلك فالخوف على مستقبل الثقافة واجب ويستكمل د.محمد عبد المطلب، أستاذ الأدب بجامعة عين شمس قائلاً: شهد الفن والإبداع فى العصر العباسى وعهد الخلفاء الراشدين حرية لم يشهدها هذه الأيام، ويذكر د.عبد المطلب أن شاعراً فى عهد سيدنا عمر بن الخطاب يدعى أبو محجن الثقفى قال شعراً «ولست عن الصهباء يوماً بصابر»، قال عمر ابن الخطاب الاعتراف سيد الأدلة وأمر أن يقام عليه الحد، فما كان من على ابن أبى طالب إلا أن يذكر عمر بن الخطاب بقول الله تعالى: «والشعراء فى كل واد يهيمون» فأسقط عمر الحد عن ابن الثقفى، أما فى عصر الأمويين والعباسيين بلغ الإبداع إلى أقصى حد فظهرت العديد من الدواوين الشعرية لأبو نواس ومسلم ابن الوليد والتى خرجا فيها عن التقاليد الدينية والأخلاقية، على الرغم من ذلك لم تصادر، مشيراً إلى أن القاضى الجرجارى حسم القضية فى كتابه الوساطة إذ قال «والشعر فى معزل عن الدين «وهو القول الذى ردده كل نقاد الشعر القدماء، أما الطرب والغناء فكان فى قمة ازدهاره ولم يمارس أى حجر عليهما بل وكانت حرية التفكير بلا حدود، ووصل الأمر بالمتكلمين فى العصر العباسى للتحدث عن الذات الإلهية، ولم يمارس عليهم أى حجر من قبل السلطة الحاكمة آنذاك.،مشيراً إلى أن «الرسول عليه الصلاة والسلام»عندما جاءه كعب بن زهير يطلب منه المغفره أنشده قصيدة «قال فى مستهلها «بانت سعاد فقلبى اليوم متبول.. متيم إثرها لم يفد مكبول، فإذا «بالرسول عليه الصلاة والسلام «يخلع برقته ويعطيها لكعب، أما ما جرى مع المتنبى والبحترى والموصلى وأبو تمام فحدث ولا حرج، وأيضاً المعتزلة الذين ناقشوا الله هل يتزوج ويلد ؟ وهل القرآن قديم أم مخلوق وحادث ؟ ويأسف د.عبد المطلب لما يحدث هذه الأيام قائلاً: «نحن الآن فى تزمت شديد،وفى نفس السياق يذكرعندما نوقشت قضية ديوان أحمد الشهاوى «الوصايا فى عشق النساء» وكانت مناظرة يحضرها رجال الأزهر وكنت المدافع عنه بمسألة لا يدركها هؤلاء المتزمتون الذين يريدون محاكمة الإبداع شعراً ونثراً بلغة القرآن، ولم يدرك هؤلاء أن اللغة العربية سابقة على الإسلام والقرآن، وأن القرآن لم يستخدم من ألفاظ اللغة العربية الموجودة فى لسان العرب سوى 2% ويتساءل متعجباً، كيف يحاسبون المبدعين بهذه الطريقة الجاهلة، ويرى المسألة معقدة وموسعة وتحتاج لحوار طويل، مطالباً بحرية الرأى والتعبير ورافضاً لإصدار الأحكام والانحطاط فى استخدام اللغة والفن . ويضيف الشاعر عبد المنعم رمضان: من الصعب أن نقارن الإبداع فى عصرنا بالعصور السابقة، ففنون العرب كانت قولية، وسلطة الدولة وقدرتها على الوصول للأطراف أقل مما هى عليه الآن، نحن نشاهد تعددية وسائل الاتصال عبر التليفزيون والإنترنت وليس بإمكان الإخوان المسلمين منعى أو منع أى مبدع من التعبير عن رأيه، ولن ينتصروا على الفن فى عالم سماؤه مفتوحة، والتاريخ علمنا أن الإبداع هو الذى يهزم الاستبداد بل ويزدهر فى ظله، لافتا النظر إلى الأديب العالمى نجيب محفوظ الذى ظل يكتب طوال كل العهود ولم يمنعه أى عائق رغم القيود التى كانت تحاصره من كل جانب، ويرى رمضان المبدع الحقيقى هو من يملك الحيل لانتصار إبداعه، فى أواخر الثمانينيات قام يوسف السباعى بإغلاق كل المجلات لكن سرعان ما تم اختراع “مجلات الماستر “وسميت بماستر الفقراء وكانت ظاهرة فى ذلك الوقت، وخرجت الجماعات التى صنعت الكتب والكراسات، ويقصد رمضان أننا باستطاعتنا أن نبحث عن بدائل ونستخدم وسائطنا الخاصة إذا قام النظام بغلق وسائطه أمامنا. من ناحيته يرى الشاعر محمد سليمان، أن وسائل التضييق على المبدعين تختلف من عصر لآخر والتشدد الدينى ضد التقدم والتحديث موجود فى كل العصور، ففى أوروبا كان التضييق على الفنون من قبل الكنيسة، فكان هناك حجر على العلماء وكانت الحرب معلنة على العلم، وفى العصور الإسلامية الفن الذى كان يمارس هو الشعر، ويرى سليمان أنه الآن تظهر بوادر الحصار والتضييق من قبل السلطة الإخوانية على الإعلام والصحفيين وتسعى لمحاصرتهم، مشدداً على ضرورة تجميع كل التيارات المدنية لتكوين جبهة عريضة تقاوم التيارات الإسلامية لكى يحدث التوازن المطلوب. ويوافقه الرأى د. عبد الناصر حسن، رئيس دار الكتب قائلاً أنه ليس بإمكان الإخوان المسلمين منع الإبداع فهم مجرد فصيل بالمجتمع وهذه الفزاعة غير صحيحة على الإطلاق، فأنشطة الثقافة ستظل فى مصر كما كانت فى كل العصور، لافتا النظر إلى أنه قد يحدث من حين لآخر اعتراض من قبل البعض، لكنه لا يصل لإزالة الفنون، ويرى أن من حق الفنان أن يقدم الكلمة الجريئة مادامت تحترم القواعد العامة. وفى نفس السياق يرى الروائى يوسف القعيد أن زوال الفن مستحيل فهو جزء من النشاط الإنسانى، فهو موجود منذ زمن الرسول عندما استقبل بالغناء “طلع البدر علينا"كلام منظوم وملحن تم غناؤه على الدف،كما وصلتنا سيرة الرسول عبر كتاب كثيرين، وظهرت الفنون وازدهرت فى صدر الإسلام، ويعتقد القعيد أن ما تشهده مصر هذه الآونة لحظة عابرة فى التاريخ لا تقضى على الفن لكنها تسبب مضايقات، مشيراً إلى أن جوهر الفن سيظل كما هو، ومحاولات التضييق هذه تجعل الإنسان العادى يشعر بالحاجة للفن، ويؤكد القعيد أنه لا يمكن لبعض السلوكيات الغريبة التى يمارسها السلفيون والإخوان المسلمون أن تطفىء الحضارة التى طرحت ابن خلدون صاحب الفكر الفلسفى المتقدم.