قد لا نجدُ فى تاريخ البشر، ومحاولتِهم تغييرَ مصائرِهم نحو الأفضل، أفضلَ وأنقى من ثورة سبارتاكوس أيّامَ روما، ومن كومونة باريس فى عصرنا. أقولُ هذا، بعد متابعاتٍ شتّى لتاريخ الثورات وأسراره، أخذتْ شطراً لا بأسَ به من اهتماماتى العامّة، عبرَ عقودٍ وعقودٍ . أمّا ثورة أكتوبر 1917 ( مضى عليها مائة عام ) فمن حقِّنا أن نُفصِحَ عمّا دار حولها من شائعٍ وشائعةٍ. * بين يدَيّ كتابُ ألكسندر سولجنيتسين ، المعنوَن ( لينين فى زيوريخ )، وهو يرصد بدقّةٍ مُشَخَّصةٍ الفترةَ بين 1914 و 1917، وأحوال لينين فيها . تلك كانت فترةَ المنفى المحبِط فى سويسرا، منذ إلقاء القبض عليه فى كراكوف وهروبه اللاحق إلى زيوريخ فى مندلَعِ الحرب العالمية الأولى، حتى رحيله إلى روسيا فى العام 1917 فى قطارٍ مغلَقٍ بحماية الحكومة الألمانيّة. آنذاك كان لينين معزولاً ، لا عونَ له من الحركة الاشتراكية الأوربية المنقسمة على نفسِها، ولا من رفاقه الثوريّين فى البلاد البعيدة . صورة لينين هنا، كما قدّمَها سولجنيتسين، ليست صورة القائد الثوريّ الجبّار، و لا المنظِّر البارع، بل هى صورة إنسانٍ، له احتياجاتُه، وضَعفُه، وقلَقُه . * نصٌ من كتاب “ لينين فى زيوريخ “ جاء سكلارتس بالوثائق الضرورية كلِّها من الأركان العامّة، وهى تخوِّلُ لينين بالسفر عبرَ الأراضى الألمانيّة، مع تأكيداتِ أن القنصل الألمانى فى زيوريخ، أو السفير الألمانى فى بَرْن، سيساعدانِ فى السفر. لقد جاء سكلارتس بالوثائق كلِّها موقَّعةً ومختومةً كلَّها، وها هى ذى على المشمّع الناصل فى دائرة الضوء الأصفر من المصباح الزيتيّ . هاأنتذا هنا : هِرّ أوليانوف . فْراو أوليانوف . كل شيء جاهزٌ . حتى إنَسّا أرمانْ ! هكذا الأمرُ إذاً ! المشكلاتُ حُلّتْ جميعاً ! لا ساعة انتظارٍ أخرى . لا مزيد من المناورات، والألاعيب الدبلوماسيّة، وإرسال المبعوثين، وانتظار الأخبار، تحت رحمة مَن هبَّ ودَبَّ . ليس لديه سوى أن يحْزِمَ ممتلَكاته، والثوريُّ ليس له ممتلَكاتٌ، ويذهب مساءَ غدٍ إنْ أرادَ . لم يمضِ سوى اثنَى عشر يوماً على تنازُلِ القيصرِ . وفى ثلاثة أيّامٍ سنكون فى بطرسبورج، ونحوِّلُ الثورة الروسيّة فى الاتجاه الصحيح ! هل تسارَعَت الأمورُ فى خِضَمِّ حربٍ عالميّةٍ ؟ ليس بإمكان أحدٍ، الآن، إفسادُ الأمور - سوف يندفعُ إلى أول اجتماعٍ جماهيريّ فى بطرسبورج، قبل الجميع، بل سوف يسْبِقُ حتى منفيّى سيبريا إلى الاجتماع . سوف يشَكِّلُ ميليشيا شعبيّة من الجنسَين، من سنّ الخامسة عشر حتى الخامسة والستّين . سوف يفعل كلَّ ما يروق له ! الوثائقُ ظلّت فى موضعِها حيث كانت، بالخطّ القوطيّ حرفاً، والنسرِ الألمانى ختماً، وصورة لينين الفوتوغرافيّة، التى صارت لها فائدةٌ أخيراً، مُلْصَقةٌ على الوثيقة . إنها تحت الضوء الأصفر للمصباح الزيتيّ، على المشمّع الرخيص المبَقّع . هذه الوثائقُ لا يمكن أن تَصدُرَ إلاّ إذا قال المستشارُ الألمانيُّ نفسُه : نعم . لكنّ لينين أحسَّ بالفخّ المنصوب ... ربّما أراد بارفوس أن يلفّ الأنشوطةَ على عنقه، ويأسرَه، ويفرض شروطه، ويقول له كيف يُسَيِّرُ الثورةَ . لكن سكلارتس قال : إلاّ أنك أنت أردتَ هذا ! قال لينين، واقفاً، وصوتُه لا يفضح توتُّرَه الذهنيّ: ينبغى أن تكون جماعةٌ كبيرةٌ . حوالَى أربعين شخصاً . فى عربةِ قطارٍ كاملة . عربةٍ مغلَقة ، مخوّلةٍ بمغادرة الأراضى الألمانيّة .