يعمل النقد الأدبي دوما على فك شفرات النص، عبر تأويله وربطه بسياقه وإبراز جمالياته وأسلوبه وتحليل التجربة الشعورية التي ينبع منها، وهو لا يكف عن اكتشاف الجديد على هذا الدرب، متجاوزا الانطباع إلى المنهج، والمسايرة إلى المغايرة، والشرح إلى الإضافة، حتى إنه يصنع أحيانا نصا موازيا، ويجلي للكتاب أنفسهم مساحات غامضة في نصوصهم، وقد يدهشهم بما لم يخطر لهم على بال، وفي كل الأحوال فهو يساعد من يريد تجويد إبداعه الأدبي على بلوغ هذه الغاية، فضلا عن أنه يعين القارئ على فهم أكثر عمقا واتساعا للنص. وعلى مر السنين تنتج لنا قرائح الفلاسفة والمفكرين والنقاد وعلماء الأدب نظريات ومناهج، أمدتنا بطرق للتعامل مع منتجات معرفية، نصوص أو مكتوب، خارج الأدب أيضا بألوانه التي ألفناها (شعر قصة رواية مسرح سير ملاحم). وعلى هذا الدرب بدأ النقد يلتفت في السنوات الأخيرة إلى دراسة «عتبات النص»، وهي مفاتيحه، في تعريفها البسيط والمباشر، وإن كانت الدراسات التي ظهرت في هذا المسار قليلة مقارنة بطرق نقدية أخرى. من أهم هذه الدراسات تلك التي أنجزها الدكتور عزوز علي إسماعيل وصدرت عن الهيئة المصرية العامة للكتاب بعنوان «عتبات النص في الرواية العربية: دراسة سيميولوجية سردية»، وهي في الأساس أطروحة دكتوراه في الأدب العربي من كلية الآداب جامعة الزقازيق، أخضع فيها عينة متميزة وهي روايات جمال الغيطاني «نثار المحو» وواسيني الأعرج «طوق الياسمين» و»سيدة المقام» وبهاء طاهر «واحة الغروب» ورضوى عاشور «قطعة من أوروبا» وفاضل السباعي «الطبل» وليلى العثمان «صمت الفراشات»، للفحص والدرس. ويحدد الكتاب العتبات فى العنوان وصورة الغلاف والإهداء ومكملات النص، مثل المقدمة والتصدير والهوامش والتذييلات والمداخل والإرشادات والتنويه والخاتمة، ويعتبر كل هذه المفاتيح جزءا لا يتجزأ من متن النص، لا يمكن فهمه على النحو الأفضل أو الأكمل من دونها، ويقول:»إذا كان الغرب وفي هذه الأوقات قد سبقنا نحن العرب إلى دراسة عتبات النص وخرج بنتائج مهمة، فإن الأمر يحتم علينا أن نعيد بضاعتنا إلينا، ذلك أن أول من تطرق إلى عتبات النصوص هم العرب أنفسهم، حيث كانت خطط شيخ المؤرخين المقريزي من خلال الرؤوس الثمانية، وتبعه التهانوي في شرحها» وهذه الرؤوس عند المقريزي يوضحها في قوله:»اعلم أن عادة القدماء من المعلمين قد جرت أن يأتوا بالرؤوس الثمانية قبل افتتاح كل كتاب وهي الغرض، والعنوان، والمنفعة، والمرتبة، وصحة الكتاب، ومن أي صناعة هو، وكم فيه من أجزاء، وأي أنحاء التعاليم المستعملة فيه». وقبل هذا كان للصوفيين والبلاغيين القدام دور بارز على درب فهم عتبات النصوص، كما فعل أبو بكر الصولى فى كتابه «أدب الكتاب» وابن الأثير فى كتابه «المثل السائر فى أدب الكاتب والشاعر» وأبي القاسم الكلاعي فى كتابه «أحكام صنعة الكلام» والجاحظ فى كتابه «الحيوان»، الذي قال عبارة غاية في العمق والدلالة مفادها:»إن لابتداء الكلام فتنة وعجبا»، وكذلك ابن المقفع في ترجمته لكتاب الفيلسوف الهندي بيدابا «كليلة ودمنة. ويبدي الكاتب حماسة شديدة لدراسة عتبات النص إلى درجة أنه لم يكتف بإنجاز أطروحة علمية لافتة للنظر فى هذا المضمار، بل أطلق دروية نقدية أسماها «عتبات»، وصدر العدد منها إلكترونيا في 25 يناير 2012، وهو يطمح للنقاد العرب المعاصرين أن يبلغوا ما ارتقاه نقاد غربيون في هذه السبيل مثل هنري ميتران ولوسيان جولدمان وروجر روفر وجيرار جينت وليو هويك. وينهي الدكتور عزوز كتابه بعبارة دالة يقول فيها:”يجب أن نخرج من نطاق المحلية عبر دراسة الأعمال الإبداعية، وخصوصا دراسة عتبات النصوص دراسة مقنعة، حتى نجد مكانا على الخريطة الثقافية للعالم من خلال هذا الجانب الذي لم يدرس دراسة كافية من قبل. وإذا ما ألقينا الضوء على هذه الجزئية، وقام غيرنا ليلقى الضوء على جزئية أخرى للعمل الإبداعي، فإن ذلك يؤدي، حتما، إلى النهوض بالأمة، التي ما زالت تنتظر ذلك الفجر البعيد، بعد أن كانت في مقدمات الأمم”. إن من يطالع المقالات والدراسات النقدية للنصوص السردية، يجد أن أقلها هي تلك التي تعنى بدراسة عتبات النص، مع أن المنطق يقول بجلاء: إنه لا يمكن الدخول إلى قلب أي نص أو متنه قبل المرور بعتبته، تماما كما لا يمكننا دخول البيوت قبل اجتياز عتباتها، وهذا ما أراد الكتاب أن يقوله بلا مواربة عبر تحليل ضاف، وشرح واف، ونظرة إحاطية في الموضوع، تحسب لكاتبه.