رغم أن الرئيس السابق حسني مبارك لم تبدر عنه, في الجلسة الأولي من محاكمته, إلا عبارة قصيرة أثبت بها حضوره, فقد وجدت في كلامه وفي صمته وفي اجراءات المحاكمة ما يدعوني إلي أن أتوقع أن تكون هذه المحاكمة مدخلا إلي مرحلة جديدة في سياق الأحداث الراهنة. وشجعني علي ذلك ما سجله الاستاذ صلاح منتصر من ملاحظات علي أداء مبارك مقارنة بأداء ولديه. وأحب أن أضيف أن وزير الداخلية الأسبق حبيب العادلي كان هو الآخر أوضح ثقة واطمئنانا من مساعديه الجالسين وراءه في القفص. لكني لا أريد هنا أن أتحدث عن أي من المتهمين سوي الرئيس السابق, لأشير إلي أن الحرص علي القصاص الذي يأخذ حق الشعب كاملا ممن يثبت عليه جرم لا يستدعي شيطنة المتهم واخراجه من زمرة المواطنين ومن زمرة البشر. وقد تكون هذه المحكمة فرصة تتاح لمبارك الأب يستعيد فيها بعضا من ملامح المواطن/ الانسان قبل أن يخرج نهائيا من المشهد السياسي بريئا أو مدانا. ألم يحدث شيء مماثل لصدام حسين؟ لقد حوكم صدام وأدين وأعدم. وأكدت المحاكمة تورطه في جريمة ضد الانسانية. لكن الكثيرين تعاطفوا مع كبريائه وتماسكه ومنطقه الرزين الحازم حتي وهو يواجه قضاة لم يشك أحد في أنهم سيحكمون عليه بالموت. فهل هناك تشابه بين صدام ومبارك؟ نعم, الشبه كبير. لقد ظن كل منهما أنه ماهر في لعبة الأمم, وأن هذه المهارة تطلق يده في الداخل ليفعل بشعبه ما شاء. لكن صدام حسين, المغامر نصف المتعلم أدار السياسة الخارجية لبلاده علي نحو انتهي إلي احتلال مهين, في حين حافظ مبارك علي الجيش والهيكل الدستوري والقانوني للدولة, وكانت النتيجة أن حوكم صدام أمام قضاة استمدوا شرعيتهم من سلطة الاحتلال, فيما يحاكم مبارك أمام قضاة نطمئن اليهم لأن سلطتهم مستمدة من الأمة المصرية. وعلي الصعيد الداخلي, فإن ما فعله صدام حسين بالأقلية الكردية وبالأغلبية الشيعية في العراق, بل وبزملائه وأعوانه وأقاربه, وضعه في فئة من الحكام لم يتدن اليها حاكم عربي من معاصريه, ولا حتي معمر القذافي. أترك صدام في قبره وأعود إلي حسني مبارك الذي وصل إلي حيث هو الآن عن طريقين: الأول أنه سعي للحفاظ علي سلام مصر والمنطقة وحارب الارهاب ذودا عن بلادنا وعن مصالحها داخليا وخارجيا, ثم حول برنامجه الوطني هذا إلي دفاع مخلص عن المصالح الأمريكية والإسرائيلية بأي ثمن وفي أي مكان من العالم. والثاني انه استرضي المجتمع الدولي باعلان الليبرالية الاقتصادية واكتفي بالجانب الإعلامي والمظهري من الليبرالية السياسية, متذرعا بخصوصية الوضع المصري, ثم حول هذه الخصوصية إلي الاستفراد ببلد تصور أنه غنيمة مباحة له ولمن حوله. لم ينتبه مبارك إلي أن البقاء لهذه المدة الطويلة في الحكم يعني الابحار عبر فترات يتغير فيها كل شيء, وأن من ساندوه بالأمس قد لا يساندونه اليوم, والأخطر انه لم ينتبه إلي أن التحولات في تكنولوجيات الاتصال وفي الأوضاع الديموغرافية تتفاعل مع ما اعتبره ليبرالية مظهرية وتولد من هذه المظهرية قوة حقيقية تهدد سلطته. ثم وقع زلزال خريف2008 وبدأ العالم الصناعي يترنح تحت ثقل النهب الرأسمالي الأخرق والحرب المطولة ضد عدو وهمي. واختارت أمريكا رئيسا من الفئات الأكثر تضررا من أخطاء الفترة السابقة وقذفت بجورج بوش وديك تشيني وسياساتهما إلي ظلال النسيان. في حين ظل مبارك يدير البلاد أو يترك لغيره إدارة البلاد دون مراعاة لحقيقة أن دوره قد انتهي. ظل مبارك مسندا رأسه علي عصاه وديدان السرقة من اللصوص والجلادين والعملاء تأكل العصا من أسفل, وفراشات الليبرالية تهزها بأجنحة الاحتجاج السلمي الرقيق. ولم يتصور أحد قبل الخامس والعشرين من يناير الماضي أن زمن الفراشات الملونة يقترب, أو أن رفيف أجنحتها سوف يسقط الجبار النائم. وحدثت المعجزة: سقط الجبار وتحولت الفراشات الملونة أسودا تواجه الهراوات والدروع والغاز وطلقات الرصاص. ملأوا كل الساحات في كل مدن مصر وقراها, فلم يعد للعالم الصناعي المجهد المترنح علي هاوية الافلاس, بافتراض أنه اكترث لمصير مبارك, موطئ قدم علي مسرح الأحداث الداخلية. واختفي الرئيس بعيدا ولم نره ثانية إلا في قفص الاتهام. وأمامنا الآن فرصة مزدوجة: أن نعرف حدود الخصومة ونعقل أساليب إدارة الاختلافات, وأن ننتقل من عدالة الشارع, التي يقف دورها عند تغيير الاتجاهات العامة, إلي عدالة القضاء, القادرة وحدها علي تنزيل الأحكام العامة علي الحالات الخاصة والمحددة. هذه فرصة لم يصنعها أحد بمفرده ولكن صنعتها الخصوصية المصرية التي أساء مبارك فهمها وإن لم يمنع هذا أن تعود عليه بقدر من النفع, قبل أن نطوي صفحته كواقع راهن ونسلمها إلي التاريخ ليصدر أحكامه علي الجميع من متهمين ومحامين وشهود.. وقضاة.