قبل ان نرفض المبادئ فوق الدستورية التي هي نتاج فكر مجموعة من المفكرين والقانونيين والسياسيين والازهر الشريف, يجب بداية ان نفهم أهمية وجود مبادئ تكون فوق الدستور, اي لا تتغير بتغيير الدستور ولا بتغيير النظم السياسية; ويجب ان نعرف أهدافها التي تعني في المقام الاول بالانسان وحقوقه الطبيعية وليس بتحديد العلاقات بين المؤسسات السياسية المختلفة ولا بشكل النظام الذي سيحكم البلاد. كما علينا ايضا أن نفهم ان تلك المبادئ والتي لها مثيلها عبر التاريخ, تم اللجوء اليها بعد عصر من القمع جري فيه انتهاكات لحقوق الانسان, ولم تتأثر بتغيير النظم او الدساتير علي مدي السنوات; فتم وضعها في مواثيق مستقلة عن الدستور, وتغييرها, إن لزم الأمر, يتطلب اجراءات مختلفة منفصلة عن الدستور. فقد شهدنا عبر التاريخ عددا من المبادئ فوق الدستورية التي أقرتها دول مختلفة. من اقدمها الوثيقة التي صدرت في انجلترا في عام1100, باسم ميثاق الحريات, ثم في عام1215, صدرت وثيقة جديدة, تغيرت في القرن الثالث عشر بأحكام اقل, وتدعي' الماجنا كارتا' او الميثاق العظيم للحريات في انجلترا والحريات في الغابة'. وهي عدة وثائق متنوعة كانت هي الاساس عندما تقرر وضع القوانين الاساسية التي تتعلق بتنظيم العلاقة بين المؤسسات الحاكمة, وتحدد سلطات كل مؤسسة, وتحدد حدودها. وفي القرن الرابع عشر اصدرت انجلترا ميثاقا عرف باسم' الهابياس كوربيس', والتي تعني من اللاتينية' يمكنك ان تملك بدنك' وهو ميثاق يحمي المواطن من الاعتقال والاحتجاز بلا سند قانوني. فيسمح هذا الميثاق للمواطن الذي تحتجزه السلطات ان يطالب بالمثول امام المحكمة حتي يتقرر قانونية احتجازه. وان لم يقدم المرء الي المحاكمة فان من حقه ان يحصل علي حريته. ولقد استلهم المؤسسون الأول للولايات المتحدة, المواثيق البريطانية, واصدرت الدولة الجديدة بعد استقلالها عن بريطانيا, وثيقة حقوق الانسان في عام1776, تتكون من16 مادة, تحدد فيها ان الانسان ولد حرا ومستقلا, وله حقوق اساسية. وفي فرنسا وبعد عصور من الحروب والصراعات والاستبداد الملكي, تفجرت الثورة الفرنسية, ثم اصدرت في عام1789 ميثاق حقوق الانسان والمواطن, مستلهما من الوثيقة الامريكية, لتحدد حقوق الانسان في معناه العام والاجمالي والذي يضم حقوق الاجانب, وحقوق المواطن الفرنسي وحقوق المجتمع او الوطن, وهي كما وصفتها الوثيقة' مجموعة الحقوق الطبيعية للافراد والمجموعات والظروف التي يتم تطبيقها فيها. ولقد جاءت تلك الوثائق بعد فترات تعرض لها المواطنون في تلك الدول للانتهاكات والقمع. فكان قد استبد الملوك البريطانيون حتي عام1100 وفرضوا ضرائب باهظة علي مواطنيهم, وقاموا بحروب وصراعات ضد الكنيسة. لذا تقرر وضع حد لتلك الانتهاكات واصدار وثيقة تحمي المواطن. وحتي لو لم تحد تلك الوثيقة تماما من جبروت الملوك, الا انها كانت تذكرة الي ان الملك ليس فوق القانون. فتنص الماجنا كارتا علي منح الكنيسة حريتها من سلطة الملك, وتنظم ملكية الارض وتقر بأن لا يحتجز أي رجل حر او يسجن او تنتزع أملاكه او حرياته او حقه في ممارسة عاداته بحرية أو يلاحق قانونيا او يتعرض لأي شكل من اشكال الضرر. كما اقرت الوثيقة بالا يصدر حكما في حق المواطن او يدان إلا بحكم شرعي يأتي به أقرانه او قانون البلاد. وتؤكد الوثيقة علي انه لا ينبغي ان يخدع أي رجل, ولا أن يحرم من العدالة او حقوقه ولا ان يتم تأجيلها. وان كانت الماجنا كارتا قد وضعت في الاساس لحماية حقوق البارونات, والحد من سلطان الملك علي حقوقهم, فانها في النهاية أرست مبدأ اساسيا وهو أن للمواطن حقوقا وكرامة يجب احترامها, كما ألهمت الدول والنظم الاخري لوضع مواثيق مشابهه لحماية حقوق المواطنين جميعا. كما الهمت واضعي الاعلان العالمي لحقوق الانسان في القرن العشرين. وان حدث وتغيرت المبادئ فانها للافضل ومن اجل توسيع مساحة الحريات, ومنح الانسان والمواطن اعتبارا اكبر. ولكن تغيير اي من المبادئ يتطلب اجراءات مختلفة عن تغيير الدستور. فان الماجنا كارتا لم يكن من الممكن الغاؤها الا بلوائح انظمة داخلية جديدة, تستبدل المبادئ بأخري اكثر وضوحا. كما ان هناك حقوقا اقطاعية واخري قضائية وحقوقا لمكافحة الفساد ومن اجل التجارة النزيهة ولكن اهم نقطة نص عليها الميثاق هي قوله ان تلك الحريات' لنا ولورثتنا الي الأبد, هذه الحريات مكفولة لهم ولورثتهم لينعموا ويلتزموا بها'.. فالوثيقة تتعهد بالحفاظ علي تلك الحقوق الي الأبد, للجيل الحالي والاجيال التالية كلها. كما ان المواثيق كلها تؤكد ان تلك الحقوق التي تنص عليها ليست حكرا علي الثوار, ولكنها تخص كل فرد علي أساس الطبيعة نفسها; انها' الحقوق الطبيعية' وهي المساواة, علي اساس ان المواطنين احرار ومتساوون في الحقوق, والا يتميز شخص عن اخر في المجتمع. وكل تلك الوثائق لازالت سارية في مبادئها الاساسية حتي الان ويتم تداركها مع وضع او تغيير الدساتير; بالرغم من ان فرنسا غيرت نظمها من الجمهورية الي الملكية الي الامبراطورية الي الجمهورية مرة اخري, ثم غيرت دستورها في قرن ونصف قرن خمس مرات. إلا ان التعهد بالحفاظ علي حقوق الانسان لا يتغير بتغيير النظم, فهي حسب ما جاء في ميثاق حقوق الانسان والمواطن ان' مبدأ كل انواع الشرعية يكمن اساسا في الوطن', لذا فهي مبادئ تأتي سابقة علي كل سلطة او مؤسسة سياسية, ويصبح تطبيقها قائما في كل زمان وفي كل مكان.