شاع مصطلح الثقافة الالكترونية في أبجديات الشعوب خلال الفترة الأخيرة, ويعني الإشارة إلي معطيات ثقافية جديدة من جراء استخدام التكنولوجيا الالكترونية الجديدة, فالتطور الذي شهدته الثقافة الغربية خلال أكثر من أربعمائة سنة, من تقليدية إلي خيالية إلي واقعية إلي حداثة إلي ما بعد الحداثة, إلي ثقافة الكترونية, قد أحكم قبضته علينا, ولكن هل يعني هذا انتهاء عصري الحداثة وما بعد الحداثة إلي غير رجعة, وحلول عصر جديد هو عصر الثقافة الإلكترونية؟ وإذا كان هذا صحيحا فما هي سمات وعلامات ومبادئ هذا العصر الجديد؟ لقد ظهرت الحداثة كتعبير عن رؤية خاصة للوجود والفكر والمجتمع, بيد أن هناك سمات فكرية وفلسفية كبري رافقت تلك الحداثة أهمها علي الإطلاق الفردية والإيمان بفكرة التقدم الإنساني المطرد والحتمية في التاريخ والطبيعة, إضافة إلي العقل والعقلانية; حيث غدا العقل الحسابي والنقدي هو معيار كل معرفة ومرجعها الحاسم إلي درجة جعلت منتقدي الحداثة يعيبون عليه كونه عقلا أداتيا,( وإرادته) إرادة- بتعبير هيدجر- تفتقد الغايات القصوي والأهداف والمعاني السامية, فالحداثة الكلاسيكية تتميز بعقلانية أداتية صارمة, وبنزعة تقنية وبقدرات لا متناهية للسيطرة علي الطبيعة والإنسان. فالإنسان تحول من متأمل للكون ومعجب ببديع خلقه إلي غاز له منقب عن أسراره. ثم جاءت ثقافة ما بعد الحداثة. فقبل نصف قرن تقريبا, حلل مثقفون فترة الحرب العالمية الثانية وما انطوت عليه من فظائع وجرائم وحشية وخسائر مادية وبشرية, وقالوا إنها خيبت آمالهم, لأنها برهنت علي أن الشر جزء من الإنسان, وأشاروا إلي قنبلة هيروشيما.ولذلك تمثل ما بعد الحداثة حركة فكرية تقوم علي نقد, بل ورفض الأسس التي ترتكز عليها الحضارة الغربية الحديثة, كما ترفض المسلمات التي تقوم عليها هذه الحضارة, أو علي الأقل تري الزمن قد تجاوزها, ولذا يذهب الكثير من مفكري ما بعد الحداثة إلي اعتبارها حركة أعلي من الرأسمالية التي تعتبر هي الطابع الأساسي المميز لتلك الحضارة. بل إن البعض يري أن عصر الحداثة قد انتهي بالفعل, وإن ما بعد الحداثة تهيئ( باعتبارها مفهوما نقديا للفكر السابق) لقيام مجتمع جديد يرتكز علي أسس جديدة تماما غير تلك التي عرفها المجتمع الغربي الحديث. ويمكن القول أن ما بعد الحداثة تبدأ من التشكك أو عدم الوثوق في كثير من الأسس والمبادئ العامة والكلية الشاملة التي سادت في عصر التنوير ووجهت الفكر الحديث, أو حسب تعبير' جان فرنسوا ليوتار' إن ما بعد الحداثة تبدأ بالميل إلي التشكيك فيما يسميه بالحكايات الثقافية العليا أو ما وراء الحكايات التي ورثها الفكر الحديث عن ذلك العصر, كما أنها ترفض التسليم بوجود أي مجموعة من المبادئ أو المعتقدات أو المسميات الفكرية العامة التي تسيطر علي إبداعات مفكري عصر الحداثة. إذن, ففي مجتمع وثقافة ما بعد حداثية فقدت الحكاية الكبري مصداقيتها, بصرف النظر عما إذا كانت حكاية تأملية أم حكاية تحرر, ويمكن النظر إلي أفول الحكاية علي أنه أحد آثار ازدهار التقنيات والتكنولوجيات منذ الحرب العالمية الثانية, ذلك الازدهار الذي حول الاهتمام من غايات الفعل إلي وسائله; كما يمكن النظر إليه علي أنه أحد آثار إعادة نشر الرأسمالية الليبرالية المتقدمة. ومن هنا, فلقد تمردت ثقافة ما بعد الحداثة علي نظريات مثل الديمقراطية, والليبرالية, وتأثرت بالتقدم السريع في العلوم والتكنولوجيا, وفي العولمة, وفي العالم الذي أصبح مثل قرية. وسألت أسئلة مثل: هل نحن نتقدم أم نتأخر؟ ودعت إلي تفكير جديد, ونظريات جديدة. ولكن أصبح واضحا الآن أن ثقافة ما بعد الحداثة لم تجب عن الأسئلة التي طرحتها, وذلك لأنها ابتعدت عن القضايا الأساسية, مثل قضايا الحرية والعدل. ومن هنا بدأ مثقفون ينتقدونها ويعلنون تشكل بل ميلاد تحت ضغط التكنولوجيات الجديدة- ثقافة جديدة هي الثقافة الإلكترونية.إذن, فمشروعي الحداثة وما بعد الحداثة الغربيين قد انتهيا, وإننا ننتقل الآن إلي مرحلة جديدة في تاريخ الإنسانية هي مرحلة الثقافة الإلكترونية, فما هي سمات ومبادئ هذه الثقافة الالكترونية؟ مثل الحداثة, تميل الثقافة الإلكترونية نحو الليبرالية الجديدة, وتراها فلسفة يمكن أن تطبق علي السياسة والاقتصاد والمجتمع. وعلي عكس ثقافة ما بعد الحداثة, تميل الثقافة الإلكترونية نحو الموضوعات الجادة, وتري نفسها ثقافة من نوع جديد, وتميل نحو التفاؤل. ومن هنا ظهرت سمات ثقافية لهذا الشباب الإلكتروني, مثل المنتديات وموقع اليوتيوب, وموقع الفيس بوك, ومواقع التواصل بشكل عام; إذ أن قوام هذه الثقافة هو حرية وإمكانية الالتقاء الميداني في الفضاء الإلكتروني من طرف مجموعة افتراضية تتوسع بالتدريج. في حقيقة الأمر, لقد غيرت هذه الثقافة الطريقة التي تحيا بها الشعوب, بدءا من قراءة الصحف اليومية, وعقد الصفقات التجارية, وإرسال المراسلات, وإجراء الاتصالات الهاتفية, وانتهاء باستخدامها كوسيلة للاعتراض علي ظلم ما, أو المطالبة ببعض الحقوق أو الدفاع عن الوطن. ومن الخصائص الأخري للثقافة الإلكترونية التي لدينا الآن أنها تقدس المتلقي; إذ أنه شرطا ضروريا للمنتج الثقافي, وهي تشمل أغلب برامج التلفزيون أو الراديو; إذ يكون مضمونها واختراعها بل وإخراجها عبر مشاركة المتلقي الذي لم يعد متفرجا سلبيا. ذلك نجده مثلا في اتصال المشاهدين والتصويت, بل حتي برامج الأخبار, أصبحت تتألف بشكل متزايد من محتوي رسائل البريد الإلكتروني أو الرسائل النصية المرسلة في التعليق علي الأنباء. كما أن الحداثة الرقمية إن جاز التعبير تتجلي بامتياز كظاهرة ثقافية في الانترنت. فالثقافة الالكترونية جعلت العالم قرية صغيرة, فهي وسيط لم يعد نوعا من أنواع الترف ولم يعد التعامل معها مقتصرا علي فئة بعينها أو طبقة مميزة عن غيرها من طبقات المجتمع الحاضر. ويستطيع الفرد في ظل الثقافة الالكترونية أن يتمتع بالحرية التي هي الحق في القيام بكل ما لا يضر الآخرين- دون أن يكون في ذلك خطر علي سلامته أو ضرر يصعب إيجاد علاج له, ففي ظل تلك الثقافة يستحيل سلب الأفراد حريتهم في التعبير عما يعتقدون. وفي المحصلة, فإن الثقافة الالكترونية غدت الفاعلية الوحيدة التي في إمكانها إعادة ربط الصلة بين أطراف العالم متقطع الأوصال, عالم فقد كل مرجعياته ونقاط ارتكازه, ولذلك فتحت الثقافة الجديدة مجالا واسعا للمواهب علي أنواعها بمختلف انتماءاتها الطبقية والعرقية والاجتماعية, ووسعت دائرة الخصوصية وخصبت الخيال الإنساني, وفتحت تلك الثقافة أيضا مجالا لأسئلة قديمة, فيبدو أن الثقافة الإلكترونية تتجه نحو مفاهيم, مثل حب الوطن, وجمع شمل العائلة وتكاتفها, والدفاع عن الحرية ونشر العدل, بل وتستطيع وحدها توجيه قوي الدولة, وهذا ما نلاحظه بامتياز في ثورة25 يناير.