قبل أن أتوجه إلي ميدان التحرير للمشاركة في جمعة الإنذار الأخير, شاءت الصدفة أن أطالع علي أحد المواقع الإلكترونية رسالة الزعيم العظيم نيلسون مانديلا إلي ثوار مصر وتونس, التي أكد فيها أن إقامة العدل أصعب بكثير من هدم الظلم. بقدر تأثري منذ الوهلة الأولي برسالة مانديلا خصوصا ما ورد فيها من مشاعر مساندة دافئة لنا ولأشقائنا في تونس, فضلا عن إظهاره قدرا من اللهفة علي حاضر الثورة وآفاقها, بقدر ما انشغل تفكيري, وما زلت, بدعوته إلي عدم الوقوف عند تفاصيل الماضي المرير.. والنظر للمستقبل والتعامل معه بواقعية, وحديثه عن تجربته لإقامة العدل قائلا:' لقد شكلت لجنة الحقيقة والمصالحة التي جلس فيها المعتدي والمعتدي عليه وتصارحا وسامح كل منهما الآخر.. إنها سياسة مرة لكنها ناجحة'. حسب الرسالة, فإن المعلومات التي وردت إلي الزعيم الإفريقي عن ثورتي مصر وتونس تشي' بأن معظم الوقت هنا مهدر في سب وشتم كل ما كانت له صلة تعاون مع النظامين البائدين, وكأن الثورة لا يمكن أن تكتمل إلا بالتشفي والإقصاء'.. قال مانديلا في رسالته:' لقد خرجتم لتوكم من سجنكم الكبير.. وكما يبدو لي فإن الاتجاه العام عندكم يميل إلي استثناء وتبكيت كل من كانت له صلة قريبة أو بعيدة بالنظامين السابقين.. ذاك أمر خاطئ في نظري'. بكل تواضع, حاول مانديلا أن ينقل إلينا تجربته قائلا:' كيف سنتعامل مع إرث الظلم لكي نقيم مكانه عدلا؟ سؤال قد تحدد الإجابة عليه طبيعة الاتجاه الذي ستنتهي إليه ثوراتكم'.. وأجاب:' أكاد أحس أن هذا السؤال الكبير هو ما يقلقكم اليوم لانه هو نفسه السؤال الذي دار بخلدي لحظة الإفراج عني'. بعد أن أكد مانديلا تفهمه لأسباب الأسي الذي يعتصر قلوب المصريين والتوانسة من مرارات الظلم التي خلفها نظاما مبارك وبن علي, البائدان, يقول:' إن استهداف مؤيدي هذين النظامين الذين يسيطرون علي المؤسسات الإقتصادية وعلي مفاصل الأمن والدولة والعلاقات الخارجية قد يسبب لكم متاعب خطيرة.. أنتم في غني عنها الآن, ويدفعهم إلي السعي لإجهاض الثورة في مرحلة تتميز فيها عادة بالهشاشة وغياب التوازن'. تلك هي الخطوط العامة في رسالة مانديلا, وقد حرصت علي نقلها بأمانة للقارئ بما يتناسب مع القيمة والقامة التي يشغلها الزعيم الإفريقي العظيم في قلوب الجميع, وقد كانت الرسالة وما حملته من مضامين هي شغلي الشاغل طوال الوقت الذي أمضيته في ميدان التحرير يوم جمعة' الإنذار الأخير' متأملا وجوه عشرات الآلاف من المشاركين في مليونية' الإنذار الأخير', وقارئا لما يحملونه من لافتات, ومستمعا لم تذيعه مكبرات الصوت من كلمات وهتافات. تري, هل نحن حقا نضيع الوقت والجهد في' السب والشتم.. والتشفي والإقصاء.. ونميل إلي الاستثناء والتبكيت لكل من كانت له صلة بالنظام القديم', وبالتالي فإننا لن ننجح في إقامة العدل؟ الهتافات واللافتات والكلمات في ميدان التحرير, كما هو الحال في محطة الرمل بالإسكندرية وفي ساحة الأربعين بالسويس, كلها تنصب في ضرورة تحقيق مطالب الثورة, وهي: الإسراع في محاكمة رموز النظام المخلوع القصاص العادل والعلني لدماء الشهداء تطهير المؤسسات تشكيل حكومة ثورية حقيقية وقف محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري إلغاء مرسوم تجريم التظاهر والاعتصام تشكيل محكمة غدر مدنية من قضاة مستقلين لمحاكمة رموز الحزب الوطني المنحل ومنعهم من العمل السياسي لمدة دورتين تشريعيتين. ظاهر الأمور في ميدان التحرير يشي بصحة حكم الزعيم مانديلا علي الحالة التي تمر بها ثورتنا الوليدة من' سب وشتم وتشفي وإقصاء' بل إنه كان محقا للغاية عند وصفه لحالة المرارة والقرف التي تنتابنا ونحن نري الوجوه التي كانت تنافق النظام السابق وهي تتحدث اليوم ممجدة للثورة, وفي رأيه, فإن الأسلم عدم تبكيتهم, بل تشجيعهم علي موقفهم الإيجابي الجديد لتحييدهم وتجنب شرورهم. ما الذي أوصلنا إلي هذه الحالة الظاهرة و'الملتبسة' بعد أن كنا قد تجاوزناها بالفعل منذ نحو ثلاثة أشهر, وقد عبرت شخصيا عن ذلك في آخر مقال لي كتبته في' الأهرام' تحت عنوان' طريق العدالة الناجزة', تزامنا مع حالة الارتياح البالغة التي سرت في نفوس المصريين عموما بإعلان قرار حبس مبارك ونجليه وزوجته ورموز نظامه المتهمين بارتكاب جرائم قتل وإهدار للمال العام وإفساد البلاد والعباد علي مدي العقود الثلاثة الماضية. وقتها, أي في منتصف أبريل الماضي, قلت في المقال أن من حق المصريين أن يبتهجوا بما تحصل من إنجازات للثورة( حتي تاريخه), وأن يفتخروا بقضائهم الشامخ, وبجيشهم العظيم, وبمجلسه الأعلي, أنهيت بالقول.. يا أهل بلدي الكرام.. اطمئنوا تماما.. الخير جاي. أين ذهب هذا الاطمئنان؟ لماذا تبددت الثقة وحلت محلها الشكوك؟ لماذا توارت البهجة وتسللت الحسرة إلي النفوس؟ من المسئول؟ في ميدان التحرير, وفي يوم جمعة الإنذار الآخير, وجدتني أصرخ بأعلي صوتي ولأول مرة أفعلها في الميدان طالبا نقطة نظام.. نقطة نظام إلي المجلس الأعلي للقوات المسلحة.. إلي مجلس الوزراء.. إلي الثوار بكل إئتلافاتهم وفصائلهم واتجاهاتهم.. إلي جماهير الشعب المصري العظيم.. التي وقفت إلي جانب الثورة وباركتها.. إلي كل المحبين لثورة الخامس والعشرين من يناير في شرق العالم وغربه.. شماله وجنوبه.. إلي الزعيم العظيم نيلسون مانديلا.. أقول: رسالتك وصلت يا سيدي.. لا عودة إلي الوراء.. لا بديل عن انتصار الثورة.. لابد من تجاوز المرحلة الانتقالية بأسرع الخطي وبأقل الخسائر الممكنة. المزيد من مقالات كمال جاب الله